نيفين مسعد
قبل أيام قليلة صدر للدكتور كمال مغيث كتاب جديد بعنوان"الغناء وعبقرية الثقافة المصرية"، وهذا الكتاب إن شئنا وصفه بلغة أهل الطَرَب لقلنا إنه مكتوب بسَلطَنَة، فالقارئ الذي لا يعرف كمال مغيث سيشعر من الصفحات الأولى بمدى ارتباط المؤلّف بموضوع كتابه وربما بحَثَ في سيرته الذاتية وأدهشه أنه متخصّص في علم أصول التربية، أما القارئ الذي يعرف كمال مغيث جيدًا فلا شك أنه استمع له مرة واحدة على الأقل وهو يغنّي إحدى أغنيات أم كلثوم أو عبد الحليم ووجد من الطبيعي جدًا أن يصدر له كتاب عن الغناء ودوره في تشكيل وجدان الشعب المصري. والغناء كما تعامل معه المؤلف يتجاوز المعنى المباشر لمفهوم الأغنية ويتسّع لكل الكلمات المنغّمة بدون استثناء من أول التلاوة والذِكر والتسبيح والآذان وحتى نداءات الباعة السرّيحة على الفجل الورور والجبنة الصابحة والسمك الصاحي .
• • •
يتكوّن الكتاب من خمسة فصول هي: الأغاني المصرية: حكايات وثقافة وتاريخ، والشعب الذي أبدع في كل فن، وهؤلاء العظماء من الثقافة إلى الإبداع، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب هرما الغناء المصري، وأخيرًا الأغنية الوطنية في القرن العشرين. وعبر هذه الفصول الخمسة يكشف الكتاب عن انعكاس التطورات السياسية والاجتماعية التي مرّ بها المجتمع المصري على فن الغناء في مبناه ومعناه. في المبنى ذهب المؤلّف إلى أنه رغم كون تعلّق المصريين بالغناء يعود لعصر ما قبل الأسرات، إلا أن الطابع الوطني للغناء المصري لم يتبلوّر إلا في عهد محمد على الذي أراد تحميس جنوده فاستحدث مدرستين لتعليم الموسيقى، حتى إذا توقفّت غزواته العسكرية وانتفت حاجته للغناء تفرّقت بالموسيقيين السبل وراحوا يكوّنون فرقهم الغنائية الخاصة. وفي المعنى فإن الاحتلال البريطاني وهزيمة يونيو ونصر أكتوبر..إلخ كان لها جميعًا انعكاسها على مفردات الأغاني، كما وأن المدّ السلفي كان له تأثيره وأيضًا منافسته للمدرسة الوطنية المصرية في كلٍ من الغناء والتلاوة. لكن الغناء ليس محض صدى للتطورات المجتمعية إذ يستحيل أن ننزع عن التراث الضخم لأمثال سيد درويش وبيرم التونسي وصلاح چاهين والثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى دورهم في التغيير والتطوير.
• • •
يدخل الكتاب إلى عالم الأغاني ليعرّف قرّاءه كيف تعامَل هذا العالم العجيب مع المناسبات الاجتماعية المختلفة كالأفراح وأعياد الميلاد ورمضان والحج والموالد، ومع الطيور والأزهار وأسماء البنات والنسيم والبيوت. يقّص علينا خلافات الملك فؤاد الأول مع سيد درويش لأنه لم يغنّ له، ومع بيرم التونسي لأنه انتقد زوجته الملكة نازلي، فمنَع تدريس موسيقى الأول في معهد الموسيقى، ورحّل الثاني من مصر. ويحكي لنا حكايات طريفة عن عَلقة الموت التي أخذها الشيخ إمام عيسى من الشيخ زكريا أحمد لأنه غنّى أغنية ثومة الجديدة أهل الهوى يا ليل قبل أن تشدو بها هي أمام الجمهور، وعن عبده الحامولي المغنّي المتصوّف الذي كان يغنّى التواشيح والأذكار من فوق مئذنة مسجد سيدنا الحسين حتى يكون للفقراء نصيب من صوته، وعن الشاعر سمير محجوب الذي رفضته محبوبته بسبب بشرته السمراء فصالح روحه بأغنيته الطريفة "أسمر أسمر طيب ماله والله سماره سرّ جماله"، وعن المعركة التي اشتعلت بين المغنين بسبب صدور قانون للأحوال الشخصية في عام ١٩٢٩ الذي رفع سن زواج الفتاة إلى ستة عشر عامًا واشترط كتب الكتاب أمام المأذون، فوقف زكريا أحمد ضد القانون وغنّى "أبوها راضي وانا راضي ومالك انت بقى ومالنا يا قاضي"، ووقف إبراهيم حمودة مع القانون وغنّى "اكتب لنا يا قاضي كتب الكتاب الليلة".. وعلى المستوى الشخصي زعلت من موقف الشيخ زكريا الذي طلب منّا أن ننظر للزهور ونتعلّم.
• • •
المؤلف مفتون بالنيل وخصَص له هو وأغاني يوليو الوطنية أكبر جزئين في كتابه، وكلنا مفتونون بالنيل ومدينون له ومخطئون في حقه كثيرًا. وفي حديثه عنه كما في معظم أجزاء الكتاب يخلط المؤلف بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، فيكتب عن عادة أهل مدينة الباجور إلقاء مشيمة المولود في النيل عرفانًا بفضله وكيف أنه كان يلهو بهذه المشيمة في طفولته. وهو أي المؤلّف يجيد تصوير حكاياته حتى أنه في تصويره لموكب الحج المهيب أيام زمان جعلنا كأننا نراه رأي العين ونسير في ركابه مع كلٍ من شيخ الأزهر وأئمة المذاهب الأربعة، تزّفنا الطرق الصوفية، وتشيّعنا زغاريد النساء، وينالنا بعض من سقيا الماء المثلّج المخلوط بماء الزهر. كما يستعرض المؤلف تمكّنه من موضوعه فيقارن بين الموّال الأحمر ذي المقاطع السداسية والموّال الأخضر ذي المقاطع الرباعية، ويقارن بين شعر أحمد رامي الحبيب المحروم الذي جمع بين الفصحى والعامية وشعر العامية لبيرم التونسي الذي تغنّى بحبيب من لحم ودم، كما يقارن بين علاقة أحمد شوقي بمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم باعتبار أن الأول غنَى لشوقي في حياته فيما لم تغّن ثومة لشوقي إلا بعد أن لاقى وجه ربه كريم.
• • •
تبقى لي ملاحظتان، الأولى تخّص ما ذكره المؤلّف عن أن الثلاثي عبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدي وعبد الحليم حافظ عندما ذهبوا بعد النكسة بالأغنية الوطنية الرائعة "موّال النهار" إلى وجدي الحكيم كبير مذيعي الإذاعة وطلبوا منه تسجيلها، عرض الحكيم الأمر على وزير الإعلام الأستاذ محمد فائق الذي انفجر غاضبًا في وجهه ووبّخه قائلًا "غور من قدامي، هو دا وقت أغاني؟"، ثم وبعد إلحاح قبل الأستاذ فائق الاستماع للأغنية مع الأبنودي وحمدي وحليم والحكيم وبحضور ممثلين لرئاسة الجمهورية والمخابرات والشؤون المعنوية وغيرهما، ووافق على تسجيل الأغنية. ولأنني أعرف جيدًا أستاذ فائق وقاموسه اللغوي الرفيع ورفضه البات لمنع كل ألوان الفن، حمَلتُ إليه هذه الحكاية فكان رده أن أغنية مثل العتبة جزاز أذيعت في عهده فهل يُعقَل أن يمنع أغنية رفيعة المستوى مثل "موّال النهار"؟ وزاد بأنه لم ير بليغ حمدي في حياته، وأن لجنة الاستماع للأغاني كانت لجنة فنية صرفة لا دخل للرئاسة بها ولا المخابرات. ولقد عاد المؤلف بنفسه في مكان آخر من كتابه ليتكلم عن أغاني ما بعد الهزيمة وكلها أغاني شديدة السطحية في كلماتها فكيف سُمح بها إذن؟ وبالتالي فإن هذه القصة تحتاج إلى تدقيق. الملاحظة الثانية تخّص ما ذكره المولّف عن أن أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية" التي كتب بيرم التونسي كلماتها وغنّتها أم كلثوم، وكيف أن هذه الأغنية "ارتفعَت بعبد الناصر فوق هامات زملائه الأحرار" وهذا يعني أن الأغنية هي التي مكّنت عبد الناصر من حسم صراعه مع محمد نجيب والوصول إلى مقعد الرئاسة، وهذا قول يحتاج أيضًا إلى تدقيق لأن شعبية ناصر لم تصنعها الأغنية لكن الأغنية عكسَت شعبية ناصر بعد محاولة اغتياله في ميدان المنشية. وقد عاد المؤّلف نفسه ليمارس هذا التدقيق في مكان آخر عندما تحدّث عن قلوب الناس التي ارتعدَت على عبد الناصر مما جعل اسمه "يقفز إلى قلب الأغنية الوطنية".
• • •
إننا أمام كتاب ممتع، شديد المصرية، سلس الأسلوب مثير للتفكير، لا تبدأ بسطره الأول حتى تصل إلى سطره الأخير وكأنك تقرأه من المسافة صفر.
نقلا عن الشروق