كمال زاخر
صارت كنيسة الأسكندرية كنيسة أقلية، بحكم التحولات التاريخية التى شهدتها القرون من السابع إلى العاشر، وهى تحولات سياسية اعادت توزيع اثقال القوى وتشكلت تأسيساً على الصراعات المذهبية (اللاهوتية السياسية) العنيفة، وبعد أن افسحت الإمبراطورية الرومانية مساحة للدين ورجاله فى بلاطها الإمبراطورى الحاكم، فخطّت بيدها سطرها الأخير من التفكك إلى الزوال، فى تكرار متطابق مع ما صنعه اخناتون قديماً حين افسح مساحة مماثلة فى بلاطه لكهنة آتون وتبنى الآتونية ديانة رسمية دون سواها، ولم يكن ما فعله فى حقيقته توحيداً، إنما رفضاً للتنوع ومصادرته ومطاردة المختلف، فكان الإنهيار ينتظره فى نهاية السطر.
كان أهم ما يميز كنيسة الإسكندرية أنها كنيسة نسكية كارزة، وقد اتخذت الكرازة عنواناً لها، وانتهجت النسك مساراً، وكانت الرهبنة ابرز تجلياته، ولكن المحير أن كليهما ـ الكرازة والنسك ـ تاها وسط واقع يخشى تفعيل الأولى أو حتى الكلام عنها، ويعيش عكس الثانية. وهو ما يمكن ان ندركه بمجرد النظر الى فخامة الكنائس والمغالاة فى تشييدها وزخرفتها، حتى فى القرى الفقيرة التى حظيت بشهرة أحد القديسين أو القديسات، حتى أن هناك من تندر على المفارقة أن إلهاً غنياً يسكن وسط رعية فقيرة، وهو ما تؤكده مطالعاتنا لملابس الإكليروس، والإمعان فى الوانها الزاعقة، وتكلفتها الباهظة، والتى تشبه ازياء عصورنا الوسطى التى تميز بها سلاطين المماليك والعثمانيين وقبلهما الفاطميين، واللافت أن هناك من اجهد ذهنه فى ابتداع تخريجات تردها إلى التوراة وكهنة العهد القديم، وبعضهم ذهب بها إلى تأويلات سفر الرؤيا والكهنة الجالسين حول العرش وتيجانهم وجاماتهم الذهب.
واحدة من اشكاليات كنيسة اليوم ما ادخلته من ارتباكات على التراتبية الاكليروسية، والتى بدأت مع حبرية البابا الراحل الأنبا كيرلس السادس حين أضاف رتبة الأسقف العام ثم تفاقمت فى حبرية البابا الأنبا شنودة الثالث، حين توسعت الكنيسة بغير مقتضى فى رسامة الأساقفة ـ ايبارشيات وعموم ـ حتى تقلصت مهامهم فى دوائر رعوية صغيرة، تم تحميلها بما تتطلبه من التزامات لإعاشة الأسقف وما يحتاجه من معاونين، طواقم سكرتارية ومقرات إقامة، وكان من الطبيعى أن يتم تهميش الأب القمص (الإيغومانس)، ليصبح تواصل القسوس مباشرة مع الاب الأسقف، بل ووجدت الرعية طريقها إلى مكتبه، ليجد نفسه محملاً ومثقلاً بأعباء يعجز عن تلبيتها، لكنه يجد فيها تحقيقاً لذاته وكينونته، ويتكرر نفس التوسع فى ترقية القسوس الى قمامصة ليصبح فى الكنيسة الواحدة أكثر من مدبر.
وعندما يُمنح الأسقف رتبة المطرانية، تأتى له كمنحة بعيداً عن حكمة التراتبية الكنسية فى أصولها، ويصبح تجاوزه فى منحه الرتبة مع دفعته من الآباء إشارة عدم رضا عنه، تماماً كما يحدث فى الأديرة فى أمر رسامة الرهبان كهنة بحسب دفعاتهم الرهبانية. بالمخالفة لماهية الرهبنة وتحذيرات الآباء المؤسسين المختبرين من مغازالة الكهنوت للرهبان.
وصار من المعتاد أن تجد كهنة الإيبارشيات الشباب يجوبون اسواق القاهرة والمدن الكبرى يجمعون تبرعات من التجار الأقباط لصالح ايبارشياتهم الريفية الصغيرة أو قل لصالح احلام اساقفتهم، وبأوامر مباشرة منهم، فالموارد محدودة والالتزامات متفاقمة والأحلام كذلك، ولك أن تتخيل ما يتعرضون له من مواقف صعبة وما ينتظرهم من تعنيف أو عقاب إن هم أخفقوا فى مهمتهم. وغير خاف على القارئ أن القضايا والإشكاليات التى اطرحها لا تتماس أو تقترب من مربع العقيدة أو الإيمان، فتلك حقول ألغام لا أملك ادوات تفكيكها، وتشهد معارك دونكيشوتية ميلودرامية بين أطرافها تدعو للشفقة عليهم وربما الرثاء.
وهنا لا اريد أن افتح ـ الآن ـ ملف إعداد الأساقفة قبل رسامتهم، والذى شهد انفراجة كانت تبشر بتطور اكاديمى مع تأسيس البابا يوأنس التاسع عشر لمدرسة حلوان للرهبان عام 1929م، بهدف تعليم الرهبان المزمع ترشيحهم لرتبة الأسقفية تعليماً كنسياً وادارياً، لكنها أغلقت عام 1961، بقرار من البابا كيرلس السادس وأعاد رهبانها إلى اديرتهم، وسبق واشرنا الى هذا الأمر فى الحلقة الثانية من هذا البحث، فيكفى أن تتابع ما يدور فى الدوائر الأسقفية لتعرف ما صاروا إليه، خاصة المتصدرين منهم للمشهد والمقيمين بشكل شبه دائم فى فضاء العالم الافتراضى. ونسوا أن مهمتهم الأولى هى الرعاية والتفاعل مع رعيتهم وقيادتهم الى معرفة المسيح واستنارته. والتى بحسب طقس رسامتهم سيعطون عنها حساباً، "من يديك يطلب دمها".
ولا أحد يختلف على وجوبية وأهمية التعليم حسب الآباء، خاصة فى الدائرة الأساسية، الكريستولوجى، كل ما يتعلق بشخص وطبيعة المسيح وتدبير الخلاص، ولاهوت التجسد، وهو تعليم لا يَجُبْ ولا يقفز ولا يتعارض مع ما سجلته كلمة الله بل يجلي معانيها ويضبط مراميها، ويقدم لنا الإنجيل معاشاً ومختبراً، لكن هل أعطى لكل اسقف أن يخرج على الكنيسة بما يظنه تعليماً صحيحاً، من عندياته، أم هناك ضوابط تحكم منظومة التعليم؟ وتحميها من الشطط والغلو، فى كنيسة مجمعية عريقة؟. هذا ما سأتناوله لاحقاً فقد أُسهم فى وقف نزيف التراشق الدائر بين بعض الاساقفة تحت مسميات مخاتلة ومراوغة.
ربما نكون بحاجة إلى نقلة تدبيرية جادة فى شأن ترتيب الهيراركية الإكليروسية تبدأ بتوثيق قانوني معاصر يحدد قواعد ومواصفات كل رتبة، الأسقفية والقسيسية والشموسية، ودرجاتها، وكيفية الإختيار لها. وضوابط التقاعد فيها، بشكل يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وقد نكون بحاجة أيضاً لتحديد علاقة المركز بالأطراف بعد أن امتد حضور الكنيسة إلى كثير من بلدان قارات العالم الست، تأسيساً على موجات هجرة الأقباط اليها، بشكل ينقلها من المحلية إلى المسكونية.
البداية فى ترتيب الخريطة داخلياً فى مصر، حيث الكرسى البابوى، الإسكندرية، وتقسم إلى 27 مطرانية، بعدد محافظات الجمهورية، يقام على كل منها "مطران"، ويشكلون معاً مجلس مطارنة، يمثل مجمع الكنيسة الأعلى برئاسة البابا البطريرك.
وتقسم كل مطرانية إلى قاطعات اسقفية تضم عدد من مدن ومراكز المحافظة (بحسب الكثافة القبطية فيها) يقام على كل مقاطعة أسقف، ويشكل مجموع الأساقفة فى كل محافظة مجلس اساقفتها، ويمثل مجمع المحافظة الأعلى برئاسة مطران المحافظة.
ويضم كل قطاع مجموع كنائس القرى والأحياء التابعة له، ويشكل مجموع قمامصة الكنائس مجلس القمامصة برئاسة اسقف القطاع.
وتصدر الكنيسة مجموعة قوانين كنسية تنظيمية تحدد نطاق هذه المجالس ومهامها ومسئولياتها وصلاحياتها وقواعد ادارتها وضبط العلاقات داخلها، وعلاقاتها ببقية المجالس.
ويتكرر هذا الترتيب فى كل قارة بحيث يقود القارة بطريرك اقليمى، ومن مجموع البطاركة يتشكل مجلس بطريركى مسكونى برئاسة البابا الإسكندرى.
وتحدد الكنيسة مهام ومسئوليات وصلاحيات رتب بطاركة ومطارنة واساقفة القارات، ومساحة حريتهم فى ادارة ايبارشياتهم هناك، كل فى رتبته، بتوازن بين الموروث الكنسى واحتياجات اجيالهم المنخرطة فى تلك المجتمعات والتى صارت جزءاً منها.
السؤال هنا هل سيتم تداول موقع البابا لكل الرتب الكنسية بحسب التقليد الكنسى فيجلس عليه، يوماً، راهب أو اسقف من خارج مصر، كما هو الحال فى الكنيسة الكاثوليكية، سواء كان من اصول مصرية أم غير مصرية؟.
سؤال يحتاج من الكنيسة الإجابة عليه، بشكل موضوعى.