اليوم تحتفل الكنيسة بتذكار نياحة الأنبا يوساب الأبح أسقف جرجا'>القديس الأنبا يوساب الأبح أسقف جرجا (١٧ طوبة) ٢٦ يناير ٢٠٢٤
في مثل هذا اليوم من سنة 1826 م. تنيح الأب العالم الجليل الأنبا يوساب الأبح، أسقف جرجا وأخميم المعروف بالابح عاش القديس الانبا يوساب الابح اسقف جرجا قبل منتصف القرن الثامن عشر وإلى الربع الأول من القرن التاسع عشر. عاصر فترة عصيبة معظمها تتسم بالصراعات المُرة بين المماليك والأتراك، كما عاصر الحملة الفرنسية على مصر. سادت الفوضى البلاد ولم يكن يوجد حاكم تهمه مصلحة البلاد.
و يُعتبر أحد علماء الكنيسة اللاهوتيين، ويُعرف بفكره اللاهوتي العميق وغيرته المتقدة للحفاظ على الإيمان المستقيم. بجانب روحانياته العميقة ونسكياته وفضائله التي اتسم بها فسمح الله بالاحتفاظ بجسده الطاهر إلى يومنا هذا.
وُلد الطفل يوسف سنة 1735 م. في قرية النخيلة بمحافظة أسيوط من أبوين بارين أمام الله. وكان والده من أغنياء القرية ومشهود لهما بالتقوى والعطف على المساكين والفقراء، وكانت الأسرة تلقب بأسرة "الأبَحّ". يظن البعض أنه دعي الأبَحّ لأنه كانا مصابًا ببَحَّة في صوته. لكن كثيرين يرفضون ذلك، لأنه لو كان كذلك لما استطاع رثاء المعلم إبراهيم الجوهري يوم نياحته في 31 مايو 1795 م. بكنيسة السيدة العذراء بحارة الروم أمام ألوف من وُجهاء البلاد والأراخنة، وعلى رأسهم حاكم مصر إبراهيم بك.
تعلم الطفل مبادئ القراءة والكتابة واللغة القبطية وحفظ المزامير، وصار يتلوها في كل وقت في خشوع وهيبة، كما درس الكتاب المقدس. بالإضافة إلى التعليم، كان يوسف يساعد والده في أعمال الزراعة، وكان يتصف بالمحبة والبساطة والتواضع. وكان مواظبًا على حضور الكنيسة والتناول من الأسرار المقدسة، حتى امتلأ قلبه بمحبة التكريس وزهد العالم. ثم أخذ يجاهد في الأصوام وأحب النسك، وكان يقوم في الليل مصليًا وساهرًا على خلاص نفسه.
ولما بلغ الخامسة والعشرين من عمره أراد والداه أن يزوّجاه، لكنه رفض إذ كان يشتاق لحياة الرهبنة، ففرح أبواه وباركا اختياره الصالح.
اتجه إلى دير الأنبا أنطونيوس وذهب إلى الأب إبراهيم الأنطوني رئيس الدير الذي رحب به وباركه ثم طلب من الآباء الشيوخ أن يختبروه فترة من الزمن. بعدها زكاه كل الشيوخ بفرحٍ. عاش يوسف بينهم في ابتهاج قلبٍ فاكتسب محبتهم وثقتهم. وكان يخدم الرهبان بحبٍ، فصلوا عليه وألبسوه ثياب الرهبنة باسم يوسف الأنطوني.
عكف على دراسة المخطوطات الموجودة بالدير والبحث في علوم الكنيسة واللاهوت حتى نال قدرًا وافرًا من الثقافة الدينية والعلم الغزير والمعلومات العامة. وبجانب جهاده الروحي من أصوام وصلوات ونسكيات كان يخدم جميع الآباء الشيوخ بالدير بكل حبٍ وبذلٍ حتى زكّوه لنعمة الكهنوت، فرُسِم قسًا ثم قمصًا، ومن ثَم أخذ يقوم بخدمة المذبح وتقديس الأسرار بكل تواضعٍ وانسحاق قلب، فامتلأ من النعمة الإلهية وذاع صيته.
وقد عاصر الأنبا يوساب خمسة بطاركة جلسوا على كرسي مار مرقس.
١. ولد في عهد قداسة البابا يوأنس السابع عشر الـ١٠٥ (1727-1745 م).
٢. دخل الدير في عهد قداسة البابا مرقس السابع الـ١٠٦ (1745-1769 م).
٣. قام بسيامته أسقفًا قداسة البابا يوأنس الثامن عشر الـ١٠٧( 1769-1796 م).
٤. اشترك في اختيار قداسة البابا مرقس الثامن الـ١٠٨ (1796-1809 م) وسيامته. وكان على رأس الأساقفة الذين اشتركوا في تجنيزه، وقدّم مرثاة عدّد فيها فضائل البابا.
٥. اشترك في اختيار قداسة البابا بطرس الجاولي السابع الـ١٠٩ (1809-1852 م) وتنصيبه بطريركًا.
سمع بسيرته وصفاته البابا يوأنس الثامن عشر البطريرك المائة والسابع ورغب في مقابلته، فاستدعاه ودار بينهما حديث في مواضيع شتى. وقف فيها الأب البطريرك على عقليته وبصيرته فأحبه، وأسنَد إليه بعض أمور البطريركية، فقام بها خير قيام. كانت علاقته بالبابا قوية تتسم بالحب، فكلاهما كانا يحبان الذهاب إلى دير الأنبا أنطونيوس ويهتمان برهبان الدير، وعاشا ناسكين.
اتسم الأنبا يوساب الأبَحّ بالفضائل الروحية مع العلم الغزير والعمق اللاهوتي والغيرة على الإيمان الأرثوذكسي، فكان البابا معجبًا به جدًا، لذا ركن إليه الكثير من شئون الكنيسة، خاصة التعليم وتثبيت المؤمنين في إيمانهم الأرثوذكسي.
وكان البابا هادئًا وديعًا متواضع القلب فأُعجب به الأنبا يوساب. جاء في مرثاته للبابا:
"جلس البابا يوأنس فوق الكرسي خجلًا ويستحي من الشيخ، ويخجل أن يكلم الصبي. يخشى الفقير ويستحي من الغنى. ويخاف أن يكلم أحدًا، قائلًا في نفسه: أنت تعرف يا رب إني إنسان حقير، ولست مستحقًا أن أُدعى لأحقر الناس عبدًا، فكيف أسمع من كافة الناس إني أب وسيد لهم؟... ومع هذا القول كان يختفي من الجموع، ويستعمل النوح والبكاء، قائلًا: يا رب أنت جعلتني رئيسًا على هذا الشعب، ولست أنا بمستحقٍ أن أكون راعيًا، لكن أنت يا رب ارعهم وسسهم، لأنهم شعبك وغنم رعيتك...
كان هذا البار متواضعًا للغاية، ولما رأى الإله الرؤوف تواضعه ووداعته أرسل إليه نعمة الباراقليط، وملأه من الفضائل حتى أنه صار مترجمًا لكل الكتب المقدسة، مفسرًا لكامل ألفاظها، متشبهًا بنوح البار، بالسهر في أيام عمل السفينة.
وهكذا صار البابا منذرًا لنا في كل أيام رئاسته".
بعد نياحة أسقف كرسي جرجا وأخميم استدعاه البابا وأبلغه برغبته في سيامته أسقفًا، فاعتذر لكثرة أعبائه وزهده في المناصب، إلا أن البابا قام برسامته رغمًا عن إرادته باسم الأنبا يوساب وذلك في سنة 1791 م.
وعندما وصل إلى مقر كرسيه في مدينة جرجا قام بافتقاد شعبه وأخذ يطوف البلاد شرقًا وغربًا، لمعالجة بلبلة أفكار الكثيرين من البسطاء، نتيجة عمل الإرساليات البابوية الرومانية. وكان يدخل القرى والنجوع ليشرح حقائق الإيمان الأرثوذكسي وتثبيت الشعب على الإيمان السليم. فاستقرت الأرثوذكسية في قلوب المؤمنين، وتمكن من إبطال بعض العادات الرديئة خاصة أثناء الصلاة، فأحبه الجميع وصار سبب بركة للكثيرين.
كان رحومًا بالفقراء، وما كان يفضل منه يرسله إلى دير الأنبا أنطونيوس من أجل تعميره، ولم يكن هذا البار يملك إلا ما يستر به جسمه وما يحتاج إليه ليومه.
قام أنبا يوساب بتشييد كنيسة كبيرة في كرسيه، إلى جانب رسامته لعدد من الآباء الكهنة المباركين لرعاية الشعب والسهر على خدمته.
و عندما أرسل بابا روما رسالة إلى البابا يوأنس الثامن عشر رسالة يدعوه فيها للاتحاد مع كنيسة روما تحت لواء بابا روما، استدعى البابا الأنبا يوساب وطلب منه كتابة رد قوي على ادعاءات كنيسة روما وتفنيد دعواها بالأدلة والبراهين، فقام الأنبا يوساب بكتابة رد مفصل ناقش فيه أهم القضايا الإيمانية المختلف عليها.
ثم طلب البابا منه أن يقوم بحملة تعليمية في الأقاليم المصرية لتثبيت المؤمنين على الإيمان الأرثوذكسي القويم، فقام بهذه الجولات في أغلب الإيبارشيات. وقد وضع كتابًا ثمينًا هو "سلاح المؤمنين" يحتوي على مقالات تعالج القضايا الإيمانية المختلفة، كما وضع كتابًا آخر هو "الدرج" نَسَبَه إلى البابا يوأنس تقديرًا للبابا وإنكارًا لذاته.
إذ قد تقدم في الأيام وأدركته متاعب الشيخوخة حاملًا على كتفيه واحد وتسعين عامًا قضاها في خدمة الكنيسة التي أحبها، لزم دار البطريركية بالقاهرة في ضيافة البابا بطرس. لكنه كان يشتهي أن ينطلق إلى السماء في دير الأنبا أنطونيوس، فاتجه إلى الدير وبعد أن أقام فيه عدة أيام فاضت روحه الطاهرة في يد الرب، في 17 طوبة سنة 1542ش الموافق 24 يناير 1826 م.، فقام الرهبان بتجنيزه ودفنه. وكانت مدة حياته إحدى وتسعين سنة. منها خمس وعشرون قبل الرهبنة، وإحدى وثلاثون بالدير وخمس وثلاثون بكرسي الأسقفية.
بعد عدة سنوات من دفنه وجدوا جسده سليمًا لم يرَ فسادًا فقاموا بإخراجه من المقبرة ووضعوه في مقصورة في كنيسة الدير. وقد كرَّمت الكنيسة هذا الأب الجليل والعالِم اللاهوتي البار، فجعلت يوم نياحته تذكارًا سجلته في السنكسار.
من كلماته:
إذ أفطرنا يا اخوتي والكنيسة صائمة نكون قد أفرزنا أنفسنا، وصرنا عثرة لغيرنا وسبب انحلال الضعفاء.
لا تصم بالخبز والملح، وأنت تأكل لحوم الناس بالإدانة والمذمة. ولا تقل أنا صائم صومًا نظيفًا وأنت تتسخ بكل الذنوب.
بركه صلاته تكون معنا امين...
ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين...