مدحت بشاي
لفت انتباهى إعلان غضب وحزن كاتبة وأستاذة أكاديمية عبرت عنه بجملة نقدية حررتها على صفحتها الفسبوكية حول ما جاء فى تصريح كاتب عربى استهله بالقول: «.. والقاهرة باعتبارها أحد المواقع الثقافية العربية»، قالت الكاتبة إنها شعرت باستهانة وتقليل من قدر الدور والفعل الثقافى الريادى والتاريخى المصرى للهجة محتوى التصريح وشكل الأداء التليفزيونى الذى لم يكن لائقًا بمثقف كان لابد يعلم مكانة البلد الذى يتحدث عنه حضاريًا بهذا القدر من التجاهل مهما كان يرى تراجع الدور الثقافى لمصر من وجهة نظره.
ورأت الكاتبة غرابة توقيت إطلاق التصريح قبل ساعات من افتتاح القاهرة، عاصمة الثقافة العربية، معرض الكتاب الدولى الذى بات يُعد المعرض الثانى دوليًا فى الأهمية والمكانة والضخامة وما يحققه من نجاحات وتطوير من عام إلى عام بعد معرض فرانكفورت الدولى!.
نعم، نعتز بمكتسباتنا ومكانتنا الحضارية فى إطار الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية.. وفى ذات السياق وبمناسبة الحرب على غزة، طالعنا مقالًا بديعًا ومهمًا بجريدتنا «المصرى اليوم» للكاتب الصحفى ووزير الثقافة الأسبق «حلمى النمنم»، الذى تقلد العديد من المناصب فى إدارات وزارة الثقافة، ومنها توليه مسؤولية النشر فى الهيئة العامة للكتاب.. أشار فيه لأهمية العودة لشعار «اعرف عدوك».. أراه بالفعل شعارًا مهمًا فى إطار دعم المناعة الثقافية؛ لأن عدونا هو عدو الأمة العربية التاريخى.
سأل «النمنم» عن سبب إلغاء المساحات التى كانت مخصصة للشأن الإسرائيلى فى معظم الصحف والمجلات، وقد كان مركز الدراسات السياسية بـ«الأهرام» يصدر مطبوعة شهرية متميزة حول الدراسات الإسرائيلية، كانت تضم مقالات ودراسات من داخل إسرائيل مترجمة إلى العربية، لكن توقف ذلك الإصدار، وكانت الهيئة العامة للاستعلامات تفعل شيئًا مشابهًا.. ناهيك عن بعض الدارسين والكُتاب الكبار الذين تخصصوا فى هذا الشأن، الراحل الكبير د. عبدالوهاب المسيرى نموذجًا.
ويضيف «النمنم» أن الأستاذ «عباس العقاد» قد زار فلسطين وحاور أعيانها ورموزها، كما التقى عددًا من الإسرائيليين، ناقشهم وسمع منهم، وكتب مناديًا العرب جميعًا إلى دعم حيفا أمام تغول «تل أبيب»، ثم يواصل الكتابة فى هذا الشأن..
ويواصل كاتبنا استعراض الكثير من الأحداث والسرديات المعرفية والتاريخية التى يكفى الاطلاع عليها أن تشكل هى وغيرها ما يمكن أن يُطلق عليه «الثقافة الحمائية»، التى تضمن للمواطن والوطن مرجعيات تدحض مواقف وتصريحات أهل الكذب ومن يزيفون التاريخ، أو تؤيد أهل الصدق ومن وثقوه بأمانة.
نعم، هى «الثقافة الحمائية» التى دفعت رموز وأهل الإبداع والثقافة لرفض تعيين مندوب الإخوان وزيرًا للثقافة، فكان تجمّعهم فى ديوان الوزارة منعًا لتسلم الوزير أعماله.. يتذكر الدكتور أحمد مجاهد، أحد رموز وقيادات الوزارة سابقًا، أنه كان أول من أقاله وزير الثقافة الإخوانى من منصبه بعد توليه حقيبة الثقافة فى عهد الإخوان، موضحًا أن اعتصام المثقفين كان بمثابة مرحلة مفصلية وحاسمة من مسيرة ثورة 30 يونيو.
فى البداية، كان مطلب من تظاهروا فى ذلك اليوم الرائع هو إقالة وزير الثقافة الإخوانى، ومع استمرار فعاليات الاعتصام كانت المطالبة بإقالة حكومة هشام قنديل وسحب الثقة من الرئيس الإخوانى.
أرى أن ما فعله المثقفون كان فعلًا إيجابيًا تغيرت فيه الصورة النمطية عنهم بكونهم أصحاب الياقات البيضاء والنظريات، إلى الجلوس على الأرصفة فى الشوارع للمطالبة بإنقاذ هوية مصر من عهد الإخوان.. وهذا هو دور المثقف الحقيقى فى اللحظات الحاسمة من تاريخ الوطن.
إنه الأمن الثقافى الذى طالب به «على الحجار»، المطرب الرائع، للتعامل مع من تلاعبوا بأمن شعبنا وأمانه بأغنيته «إحنا شعب وهمه شعب» دفاعًا عن الهوية المصرية التى نال منها مرشدهم صاحب مقولة «طظ فى مصر».
ومعلوم أن الهوية هى الخصوصية التى تُميز جماعة بشرية عن غيرها، كالعيش المشترك، العقيدة، اللغة، التاريخ والمصير المشترك، وأن التنوع الثقافى يتطلب تحقيق الوحدة والتكامل من خلال تحويل المجتمع المتعدد ثقافيًا إلى مجتمع متجانس، والتعاطى مع عنصر الأمن الإنسانى لبناء أُسس التنمية، وتجنب حالة الصراع والنزاع، كما أن التعددية السياسية مطلب ضرورى للإقرار بمبدأ الحوار الفكرى المتواصل، وتعدد القوى والآراء السياسية للجماعات العرقية، وحقها فى التعايش..
ويُعد الأمن الثقافى وسيلة دفاعية لابد منها ولا يمكن تجاهلها بأى حال من الأحوال وتحت أى مسمى كان، كحرية التعبير أو حق المعرفة أو التبادل المعرفى الثقافى لكن الأهم المحافظة على مثل هذه المكتسبات الشعبية الثقافية.
ونسأل: هل تتحقق المناعة الثقافية ـ كما حدث فى بعض الدول ـ بمنع دخول بعض الإصدارات واتخاذ إجراءات وقائية كالتشويش على بعض القنوات الفضائية وحجب بعض المواقع الإلكترونية أو باستحداث بدائل محلية تكون قادرة على شغل فراغ يتواجد بالضرورة؟!.
يرى أهل الخبرة أن وسائل الرقابة، خصوصًا فى فترات معينة من عمر الإنسان كفترة المراهقة، لا بديل عنها، لأن هذه المرحلة هى التى تشكل أساس الثقافة، وإذا كان هذا الأساس متينًا قد لا يكون من الأجدى اتخاذ الوسائل الرقابية شرطا أساسيا فى الفترات اللاحقة.
«يوسف السباعى رائد الأمن الثقافى».. هكذا أطلق توفيق الحكيم على يوسف السباعى هذا اللقب، لدوره الذى قام به فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ونادى القصة، وجمعية الأدباء.
أخيرًا، ننتظر من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية العملاقة المزيد من جهودها الرائعة عبر قنواتها، وبشكل خاص عبر قناة «الوثائقية» لدعم الأمن الثقافى بالمزيد من الأعمال التسجيلية الموثقة لواقع الثقافة المصرية والبعد الحضارى للمكون الإبداعى لإنجازاتها.
نقلا عن المصري اليوم