أحمد الخميسي
قطعت البشرية شوطا طويلا من أحلامها بالسعادة لتفيق على وقائع الإبادة، وقد سجل أفلاطون ذات يوم حلم البشرية بمدينة فاضلة يحكمها الفلاسفة وتنتفي فيها الجرائم والملكية الخاصة، السعادة فيها حق للجميع من دون تمييز. لكن البشرية بعد ألفي وخمسمئة عام من ذلك الحلم مضت عكس ذلك كله، نحو جرائم أكبر، قاصدة غزة، حيث جرت وتجري على قدم وساق عملية ابادة جماعية راح فيها مئة ألف انسان تحت ركام الأماني المنهارة بعالم سعيد ومدينة " مثالية" للحق والعدالة. ولم يكن للتفاؤل بأحلام أفلاطون ومدينته الفاضلة " يوتوبيا" أن يستمر طويلا، فظهرت في مطلع القرن العشرين روايات مضادة " ديستوبيا " عن مدن الواقع المرير القاسية التي تتحكم فيها أقلية لا ترحم أحدا. والشائع بذلك الصدد أن رواية الدوس هكسلي " عالم جديد شجاع" كانت الأولى من نوعها في روايات المدن المضادة، لكن ذلك غير دقيق، فقد ظهرت رواية هكسلي عام 1930، لكن كانت قد سبقتها إلى الظهور عام 1920 رواية الكاتب الروسي يفجيني زمياتين " نحن " التي بلغ فيها النظام الشمولي قسوة أن يكون لكل فرد رقم بدلا من الإسم، ثم ظهرت رواية " العالم 1984" تأليف جورج أوريل عام 1949.
وفي الروايات الثلاث سنجد ذلك الحس العميق بالتشاؤم من تطور البشرية إلى الأفضل.وحين نشرت رواية " نحن" لاقت هجوما رسميا عنيفا، وفي حينه رد زامياتين على الهجوم عليه بقوله: " لم يجد النقاد في الرواية أكثر من هجاء سياسي، بينما الرواية نذيرٌ بالخطر الذي يتهدد الإنسان والإنسانية بسبب السلطة المتزايدة المتضخمة للآلة وللدولة". وكان ذلك الخطر بعد عشر سنوات هو موضوع رواية هكسلي " عالم جديد شجاع " التي صور فيها العالم وقد سقط في قبضة نظام فاشي شمولي، قسم البشر إلى فئات بواسطة التحكم في الاجنة والمواليد، فهناك فئة العمال الذين يتم اعدادهم للعمل العضلي، ليكونوا بلا عقل، ثم الى فئات بشرية أرقى قليلا للأعمال المتوسطة وصولا الى " الفا" وهي ارقى فئة ذهنيا، وخلال ذلك نعرف ان البشرية في ظل ذلك النظام قد تخلت عن الدين والآداب والفنون وكل ما من شأنه أن يثير العاطفة والقلق والتفكير.
أما جورج أوريل فإن أحداث روايته تقع في إحدى مقاطعات بريطانيا العظمى، في عالم لا تنتهي فيه الحروب تحت نير حكم يدعي أنه " اشتراكية انجليزية"، يقف على قمته الأخ الأكبر الذي يجسد طغيان الدولة والعالم. وفي النماذج الثلاثة الأشهر من روايات " ديستوبيا " ( المدينة البغيضة " نرى بوضوح انهيار الحلم البشري الأول بعالم مثالي عادل وآمن. وبالرغم من سقوط الحلم بأقوى صورة في مطلع القرن العشرين، وبرغم الحربين العالميتين، إلا أن أحدا لم يكن ليتخيل أن يمضى الانهيار بهذه الخطوات الواسعة من مدينة مثالية إلى مدينة غزة، ومن الحلم بحياة رخية للبشر إلى الابادة الجماعية التي كان معظم ضحاياها من النساء والأطفال.
نقلا عن الدستور