مدحت بشاي
«الكنيسة القبطية مجد مصرى قديم، ومُقوم من مقومات الوطن المصرى، فلابد أن يكون مجدها الحديث ملائمًا لمجدها القديم».. هكذا استهل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين مقاله حول إصلاح التعليم الدينى، الإسلامى والمسيحى، وتم نشره فى مجلة «مدارس الأحد»، ذلك الإصدار التاريخى الرائع والأهم للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وقد تحقق معظم ما تمنى العميد أن تشمله خطط الإصلاح بروعةٍ وأداءٍ بديعٍ فى رعاية بطاركة الإصلاح والتطوير.
وأبرزهم قداسة البابا كيرلس الرابع، البابا المائة وعشرة، «أبو الإصلاح»، الذى اهتم بالتعليم الدينى بإنشاء مكتبة بعزبة الدير لخدمة جميع المتردّدين عليها من الإكليروس والرهبان والشعب، كما أسس فى بوش مدرسة لتعليم شباب الأقباط اللغتين العربية والقبطية، وكان يشرف عليها بنفسه، ويقدم مكافآت للمجتهدين فيها، وكان يوزع عليهم ميداليات ذهبية وفضية لتحفيزهم على الاستزادة العلمية والروحية.
ولم يخجل من الحضور مع الشبان فى المدرسة ليتعلم معهم.. وصولًا إلى عصر قداسة البابا شنودة الثالث، الذى اهتم بإنشاء وتطوير المزيد من مؤسسات التعليم الدينى، ودعم أمور تأهيل وتثقيف الكهنة وتعليمهم وتدريبهم عبر المعاهد اللاهوتية والأديرة وفى كل بيوت الله (الإيبراشيات) المسيحية فى عموم المحروسة.
وقد أسعدتنى دعوة قداسة البابا تواضروس الثانى التى وجهها إلى عموم المصريين لزيارة الأديرة، باعتبارها تمثل بتاريخها المتفرد جانبًا مهمًا من التاريخ المصرى، حيث الرهبنة فكرة وإبداع روحى مصرى، وحيث لدينا أقدم كنيسة وأقدم دير فى العالم وهو دير السيدة العذراء «المحرق»، والذى شرف باستقبال العائلة المقدسة خلال رحلة هروبها من بيت لحم فى فلسطين، حيث تُعتبر الفترة التى قضتها العائلة فى هذا المكان من أطول الفترات، وتُعتبر المغارة التى سكنتها العائلة هى أول كنيسة فى مصر، بل فى العالم كله.
وعليه، كان اختيار الكاتب الصحفى والإعلامى الرائع حمدى رزق لهذا الدير، والذهاب بكاميرا برنامجه المتميز «نظرة» يوم عيد الميلاد للقاء رئيس الدير ورهبانه، بالأهمية بمكان لإلقاء الضوء حول تاريخ ورسالة الدير وبرامج أنشطته الإنسانية والروحية، ومدى تفاعل أهل الدير مع المجتمع المحيط عبر إدارة حوار مهم مع من يديرون القطاعات المختلفة فى الدير.
وقد عُرِفَ الدير منذ القِدم باسم «دير السيدة العذراء» واشتهر بـ«دير المحرق»؛ لأنه كان متاخمًا لمنطقة تجميع الحشائش والنباتات الضارة وحرقها، ولذلك دعيت بـ«المنطقة المحروقة» أو «المحترقة»، ومع مرور الوقت استقر لقب الدير على «المحرق»، كما أنه اشتهر بدير جبل قسقام.. و«قسقام» اسم قديم منذ عصر الفراعنة، ويتكون من مقطعين: «قُس».. و«قام».. و«قس» هو اسم مدينة اندثرت حاليًا.
كانت عاصمة الولاية الرابعة عشرة من الولايات الـ 22 التى كان مقسمًا بها صعيد مصر، ولم يبق منها حاليا إلا البربا ـ المعبد - ومعناها الدينى «المكان العلوى»، ومعناها المدنى «تكفين أو تحنيط جثة الميت ولفها بالكتان لتحضيرها للدفن».. و«قام» هو اسم كانت تختص به المنطقة التى تقع غرب الولاية الرابعة عشرة، ومعناها الدينى «اللانهاية ـ إلى الأبد».
ومعناها المدنى كما يقول المؤرخ أبوالمكارم «مكفن بالحلفاء للصعاليك» - فقراء - ولقرب قام من قُسْ اشتهرت المنطقة والجبل المجاور بقسقام، وبالتالى اشتهر الدير بدير جبل قسقام.
وذكر قداسة الأنبا بيجول، رئيس الدير فى مستهل حديثه للبرنامج، أن عبارة «مبارك شعبى مصر» جاءت فى سفر أشعياء العهد القديم كنبوءة تحققت بزيارة العائلة المقدسة، حيث مكثت 6 شهور و10 أيام بموقع الدير.. كما جاء أيضًا فى سفر أشعياء عبارة «يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر»، فهو مذبح كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية بدير المحرق العامر، وهو ما أكده أهل الجغرافيا كموقع وسط مصر، وحسب التقليد القبطى المتوارث، أن دير المحرق هو المحطة الأخيرة فى رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وتحتفل الكنيسة بتذكار تكريس كنيسة العذراء الأثرية فى يوم 6 هاتور من الشهر القبطى.
وإلى دير السيدة العذراء «المحرق» يتوافد الأقباط، وينذرون نذورًا لها تيمنًا بالبركة واستجابة لطلباتهم والشفاعة من العذراء مريم، فهو أحد الأبنية القبطية التاريخية التى تربط الماضى بالحاضر، إذ كان مقرًا للسيدة العذراء قديمًا ويضم أقدم مذبح فى العالم، وفى نفس الوقت يضم عددًا من الكنائس الحديثة ذات الطراز الإيطالى، وعلى قدر عظمته التاريخية صُمِّم هذا البناء الشاسع المساحة، الذى ترتفع أسواره كثيرًا لتشعر وكأنك بين جدران قلعة أو حصن منيع، إنه الدير المحرق بمركز القوصية محافظة أسيوط.
يخص كل زوّار الدير، السيدة مريم، بتلبية الرغبات والدعوات التى تتنوع ما بين شكوى ضيق الرزق، وقلة العمل، وأخريات حول النجاة من ظلم العباد، وإنهاء الخصومة والثأر بين العائلات التى قد تضر بالأبرياء وتأخذ فى طريقها مَن ليس لهم ذنب، وهناك من الرسائل التى توحدت فى حب البلاد والدعاء لأمنها وأمانها فى ظل الجائحة التى كانت مثل الوحش الكاسر الذى يقضى على الجميع.
تحية لصناع ومبدعى برنامج «نظرة».. لقد اختاروا أن يكون احتفالهم بعيد الميلاد المجيد بشكل خاص بديع بـ«الاحتفاء بالتاريخ المصرى وأمجاد المواطن المصرى المتصوف الروحانى والتنويرى، وإلقاء الضوء على الرموز الدينية أصحاب الأدوار الروحية والدعوية التاريخية ومواقع إسهاماتهم».. وبالمناسبة، أعتبر الحلقة دعوة للبرامج والقنوات الدينية المتخصصة للاهتمام بمثل تلك البرامج الإعلامية الداعمة للأنشطة السياحية الداخلية والخارجية، والتنويرية والثقافية البديعة الداعمة للوعى العام.
نقلا عن المصري اليوم