د. أمير فهمى زخارى
تعتبر اللغة العربية هى اللغة الثانية ! فاللغة الأولى لكل المصريين هى “لغة الأم” التى يستخدمونها فى حياتهم اليومية ويعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم بسلاسة وتلقائية. إنها “العامية المصرية” التى تعتبر جزء من الهوية المصرية والإنتقاص من قدرها إنتقاص من هويتنا ذاتها. ورغم ذلك لا تجد من يرعاها …!؟.
والدعوة لرعاية لغتنا الأولى والحفاظ عليها وتأصيلها ليست ترف فكرى بل هو أمر لازم تفرضه علينا عدة إعتبارات سنعرض لبعضها فيما يلى:-
1- حقوق الملكية:
فلقد نشأت “العامية المصرية” فى رحم المجتمع منذ نشأته الأولى وتطورت على أيدى أفراده فى إستجابة خلاقة لمتغيرات الواقع ومستجداته، أى أننا “أصحابها” و”ملاكها” ملكيتنا لها تمنحها القدرة على التنامى والتطور والتكيف الدائمين.
فهى فى إثراء رصيد كلماتها من لغات أجنبية:
رأيناها تأخذ من الآرامية “سمسار” و”كشكول” و”بردعة”،
ومن العبرية “شاش” و”كاهن” و”مرقة”،
ومن التركية “تنبل” و”ترزى” و”كرباج”،
ومن الإيطالية “فاتورة” و”صالة” و”أوسطى”.
وهى قادرة على “تمصير” تكنولوجيات العصر، فوجدناها تمصر أفعالا من اللغة الإنجليزية مثل:
"To Save “يسيف (يحفظ) و To Hang"" يبقى معلّقاً أو غير منجَز و”يهنج“، لوصف حالته عندما “يعصلج” ويتوقف عن العمل.
2- أما ثانى الإعتبارات فيتمثل فى كون عاميتنا هى التجسيد الحى لإستمرارية ووحدة التاريخ المصرى، فتتبع نشأتها وتطورها مر بستة مراحل هى: مرحلة العصر القديم، مرحلة العصر الوسيط، مرحلة العصر المتأخر، المرحلة الديموطيقة، المرحلة القبطية وأخيرا المرحلة العربية.
فالخطوط الهيروغلفية بدأت من (4000 ق.م – 30 ب.م) والهيراطقية من (2000 ق.م – 100 ب.م) والديموطقية (500 ق.م – 100 ب.م) والقبطية من (100 ب.م – 1100 ب.م)، التى إستخدمت الحروف اليونانية، كما استخدمت حروف اللغة العربية من (800 ب.م).
ويمكن رصد كتابات العامية عند إبن دانيال المتوفى سنة 1311م وإبن سودون المتوفى سنة 1457م. و فى القرن السابع عشر بظهور كتاب “دفع العسر عن كلام أهل مصر” الذى يعتبر أول قاموس للعامية لصاحبه يوسف المغربى المتوفى سنة 1610م. كما كتب العالم المصرى / مصطفى مشرفة رواية كاملة باللغة العامية ”قنطرة الذى كفر“ ويمثل رصيد كلمات العامية وتراكيبها اللغوية أبرز دلائل “الإستمرارية التاريخية” ...
ففى مرحلتها القبطية نجد عندما يحبو صغيرنا ويبدأ المشى نقول له “تاتا ”عندما يعطش يقول“النونو” “إمبو” يجوع يطلب الـ “مم” وعندما يشبع يقول “بح” ونكفى على الخبر “ماجور“ ولا تسرنا “كلكعة” الأمور. ونغنى لمولودنا فى سبوعه “حلا آتك، برجا لاتك”و”برجالاتك” مكونة من كلمتين: “برج” وتعنى يفرشح أو يفرد، وكلمة “لاتك” وتعنى قدميك. والقائمة تشمل “بتاو” و”شونه” و”مشنه” و”خٌن” و”شأشأ” و”عنتيل” و”كانى” و”مانى“. وتمتد لتشمل الحوار بين الانسان والحيوان: “حا“.. “عا”.. “شى” … “هس”.. “بس” … “هش“.
ولا يقتصر الأمر على الكلمات بلفظها بل يمتد إلى تراكيبها اللغوية فنحن نقول “راح مصر إمتى؟“ بدلا من “متى ذهب إلى مصر؟ ونقول “راح مصر ليه؟” بدلا من “لماذا ذهب إلى مصر؟ ”
3- الشيزوفرنيا اللغوية:
نصل إلى الإعتبار الثالث المتعلق بالنظرة المتعالية لموقف “حفاظ” اللغة العربية تجاه لغتنا، الذى يأخذ أشكالا متعددة بدءا من إهمال دراسة صوتياتها وصرفها ونحوها ومرورا بتجنب إستخدامها فى المناسبات الرسمية وإنتهاءا بحرمان طلاب المرحلة قبل الجامعية من دراسة منتجاتها الأدبية التى من أبرز أمثلتها إنتاج شعرائها الكبار بدءا من بيرم التونسى وإبن عروس وإنتهاءا بعبد الرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم ومرورا بصلاح جاهين وفؤاد قاعود، وفؤاد حداد، بديع خيرى. وهم بذلك يخلقون “عالمين لغويين” هما “عالم الفصحى” و”عالم العامية” ليتشتت بينهما فكر وضمير المصريين وتزداد الهوة بين “ثقافة النخبة” و”ثقافة العامة”. ويؤدى هذا كله إلى إنفصام بين عالم القول (اللغة) وعالم الفعل (الواقع) فنتحول إلى “ظواهر صوتية” تستغنى عن الأفعال بالأقوال.
والى اللقاء في الجزء الثاني من " لغتنا الجميلة ومين ياخد باله منها ؟" مع أرق تحياتي للجميع.
المصادر:
- نشأه اللغة المصرية القديمة وخطوطها الثلاثة: أ / محمود فرحات. منسق بعث الهوية.
- تطور اللغة المصرية فى المرحلة المسيحية: أ / فتحى سيد فرج. احد مؤسسى جماعة تحوتى.
- اللغة المصرية الحديثة: أ / عبد العزيز جمال. المؤرخ ومحقق التراث المصرى.
- بنتكلم مصرى “اللغة والهوية “:أ / سامى حرك. الباحث فى الحضارة المصرية وعلومها.-