محرر الأقباط متحدون
ننشر رسالة الميلاد ٢٠٢٣ للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي علي النحو التالي:
"ولد المسيح هللويا!"
إخواني السادة المطارنة الأجلّاء،
قدس الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والإقليميّين والإقليميّات الجزيل احترامهم،
الرهبان والراهبات والكهنة المحترمون،
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
ولد المسيح، هللويا!
"الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا" (أشعيا 9: 1، متى 4: 16)
1 هذه النبوءة لأشعيا النبي ذكرها الإنجيليّ متّى عندما بدأ يسوع رسالته العلنيّة في الجليل، وفي قلبه غصّة بسبب القبض على يوحنّا المعمدان، وزجّه في السجن. يومها أعلن الربّ دعوته العامّة: "توبوا، لقد اقترب ملكوت السماء". فكانت دعوته هذه بمثابة شهب من نور قويّ اخترق الظلمات، بحسب نبوءة أشعيا: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في بقعة الموت وظلاله، أشرق نورٌ عليهم" (راجع متى 4: 12-17).
2 هذا الشعب هم الناس أجمعون الذين يهيمون، بإرادتهم أو رغمًا عنهم، في ظلمات الحياة الماديّة والروحيّة والمعنويّة. وهي ظلمات الفقر والجوع والحرمان؛ ظلمات الخطيئة والشرّ والظلم والكبرياء؛ ظلمات التزوير وسرقة المال العام؛ ظلمات اليأس والإحباط والضياع؛ ظلمات الإستبداد والإستقواء؛ ظلمات الفساد السياسيّ والمالي والأخلاقيّ؛ ظلمات الإستعباد لأصنام النفوذ والسلطة والسلاح والمال.
3 على هؤلاء الناس أشرق نور عظيم، هو نور متجسّد إسمه يسوع المسيح، وقد أشرق بمجد ألوهيّته وتواضع بشريّته على رعاة بيت لحم الأميّين الساهرين على مواشيهم في هجعات الليل (لو 2: 8-9). وأشرق على رجال العلم الفلكيّ في المشرق، عبر قراءة حركة النجوم، فأدركوا أنّ المولود في بيت لحم "ملك جديد"، وقد إقتادهم نجمه إليه (راجع متى 2: 1-2). جديد هذا الملك، كما كشفه نوره العلميّ لعقولهم، أنّه ملك وإله وفادٍ، فقدّموا له الهدايا الرمزيّة اللّائقة الثلاث: الذهب للملك، والبخور للإله، والمرّ لحنوط الكاهن الذبيح.
4 هو المسيح - النور يجمعنا كما في كلّ سنة بلقاء ينظّمه اتّحاد الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات والإقليميّين والإقليميّات، لنصلّي معًا ونتبادل التهاني بعيد الميلاد والسنة الجديدة 2024، بمشاركة السادة المطارنة في الكرسي البطريركيّ والآتين من أبرشيّاتهم، وكهنة ورهبان وراهبات. ونوجّه تحيّة شكر إلى قدس الأب مارون مبارك على الكلمة، الرئيس العام لجمعيّة الآباء المرسلين اللبنانيّين الموارنة، على الكلمة اللاهوتيّة والروحيّة التي ألقاها باسمكم التي ألقاها باسمكم.
5 وإنّا نحمل في صلاتنا أهلنا في جنوب لبنان الذين يعانون من حرب فُرضت عليهم ولا يريدونها، ولا أحد منّا ومن اللبنانيّين يريدها. فنعلن قربنا منهم وتضامننا معهم، كذلك مع أهل قطاع غزّة المفروضة عليهم حرب إباديّة جماعيّة، حصدت من دون شفقة في آخر إحصاء 18000 فلسطينيًّا، 70 % منهم من النساء والأطفال، واقترب عدد الجرحى من 50،000، وبلغ عدد المفقودين تحت الأنقاض 8،000 بين قتلى ومن ينتظر الإنقاذ، وتمّ تهجير 1،800،000 فلسطيني قسرًا، وتحولّت أحياء قطاع غزّة إلى أنقاض، إنّنا ندين أشدّ الإدانة هذه الحرب الإباديّة الوحشيّة ونصلّي إلى الله من أجل هؤلاء الإخوة المنكوبين، ونناشد الأمم المتّحدة ومجلس الأمن إيقاف هذه الحرب، رحمةً بالمدنيّين الأبرياء. فبالحرب لا أحد يربح بل الجميع خاسرون!
6 إنّنا في هذا اللقاء الميلاديّ نعلن إيماننا بالمسيح-النور الحقيقيّ الذي ينير جميع شعوب العالم (نور الأمم، 1)، ونحن أوّلهم بحكم معموديّتنا التي جعلتنا "مستنيرين" وبحكم دعوتنا المقدّسة المتنوّعة. فإنّنا "من المسيح نأتي، وبه نحيا، وإليه موجّهون"(نور الأمم، 3).
7 ليس المسيح، الذي نحتفل بذكرى ميلاده، آلةً للنور، بل هو النور نفسه بشخصه وكلامه وآياته. عنه كتب يوحنّا في مستهلّ إنجيله أنّه "النور الذي ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم" (يو 1: 9). والربّ يسوع قال عن نفسه: "أنا نور العالم. من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يجد نور الحياة" (يو 8: 18). ما يعني أنّه من غير الممكن الخروج من ظلمات الحياة من دون نور المسيح، ومن غير الممكن السير على طريق الحقّ والخير والجمال من دون نوره، كما نصلّي في المزمور: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز 119: 105).
8 ما أحوجنا إلى هذا النور الإلهي لكي نخرج من نفق الظلمة الشخصيّة والعموميّة إلى فسحة الإنفراج!!!
ما أحوج المسؤولين السياسيّين عندنا في المجلس النيابيّ والحكومة والأحزاب والتكتلات النيابيّة إلى نور كلمة الله الذي ينير الضمائر، لكي يخرجوا أحرارًا من ظلمة مصالحهم الخاصّة والفئويّة، ولكي يخرجوا البلاد من نفق الفراغ الرئاسيّ في أدقّ وأخطر مرحلة من تاريخ لبنان! ونردّد ونقول لهم: "إنّكم ترتكبون جرمًا بحقّ رئاسة الجمهوريّة والمؤسّسات الدستوريّة والشعب اللبنانيّ، فيما تتمادون في رهن إنتخاب رئيس الدولة إلى شخص أو مشروع أو هدف مستور، والضحيّة هي الدولة بكيانها والشعب بحقوقه السليبة"
لقد رحّب الرأي العام الداخلي والخارجيّ بقرار التمديد لمدّة سنة لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنيّة بموجب القاعدة العامّة: "خلاص الوطن هو الشريعة الأسمى".
فكم بالأحرى إنتخاب رئيس للدولة، وحمايتها من تفكّك مؤسّساتها، وتشتيت شعبها، وغياب رأسها عن طاولات المباحثات الجارية في العواصم بشأن هذه المنطقة الشرق أوسطيّة الملتهبة بحروبها ونزاعاتها، ولبنان في طليعتها!
هلّا قلتم لنا لماذا تريدون خراب الدولة بعدم انتخاب رئيس لها؟ وأنتم تعلمون جيّدًا أنّ لا دولة من دون رئيس! يتكلّمون عن التوافق حول شخص الرئيس. هذا التوافق يتمّ أثناء دورات الإنتخاب المتتالية عملًا بقاعدة الديمقراطيّة. والبرهان مرور سنة وثلاثة أشهر من الفراغ، من دون جدوى.
من يحمي الدستور بغياب الرئيس، وهو وحده يحلف اليمين على حمايته؟ وبغيابه من يرأس المؤسّستين الدستوريّتين: مجلس النواب والحكومة، لجهة ضبط تناسق عملهما، وهما جناحا الدولة، ومن واجب الرئيس تأمين تناغمهما، تحت باب احترام الدستور؟ وبغيابه من يطلب إعادة النظر بالقوانين وتوقيعها انسجامًا مع الدستور وتجنّبًا لأي ظلم قد يحصل؟
9 والقضيّة مطروحة اليوم بالنسبة إلى "القانون الرامي إلى تعديل بعض أحكام قوانين تتعلّق بتنظيم الهيئة التعليميّة في المدارس الخاصّة وتنظيم الموازنة المدرسيّة" الذي أصدره المجلس النيابي في 15 كانون الأوّل الجاري، وأثار اعتراضًا شديدًا من المدارس الكاثوليكيّة على بعض بنوده، التي توقع ظلمًا بالمدارس وأهالي الطلّاب، لاسيما وأنّه يصدر بعد نهاية الفصل الدراسيّ الأوّل. الأمر الذي اضطرّ هذه المدارس إعلان إضراب مفتوح، نحن بغنى عنه، ويكفي ما نواجه جميعًا من قلق وعدم استقرار وتصاعد الحرب في الجنوب. فإنّا ندعو المعنيّين إلى جلسة حوار لإزالة النقاط الخلافيّة حمايةً للعائلة التربويّة في كلّ مدرسة: إدارةً، وهيئةً معلّمين، وأهالي، وتلامذة.
10 إنّ الكنيسة بمؤسّساتها التربويّة والإستشفائيّة والإجتماعيّة تقوم برسالتها من باب المحبّة الإنجيليّة، دونما تمييز دينيّ أو طائفيّ أو مناطقيّ؛ وتتكبّد لهذه الغاية تضحيات جمّة وجسيمة. وهي بذلك تساعد الدولة في هذه المسؤوليّة. ولكن يؤسفها جدًّا أنّ المسؤولين في الدولة غير معنيّين بل يحاربون هذه المؤسّسات ويحرمونها من عائداتها، ويشبهون "أناسًا يشربون من البئر ويرمون فيه حجر".
فإنّ الأبرشيّات والرهبانيّات، التي ترزح تحت ثقل هذه المؤسّسات المهدّدة بالإقفال هي في صدد تقديم مراجعة قضائيّة أمام مجلس شورى الدولة لتحصيل ديون مترتّبة بذمّة الوزارات المختصّة وتعود للجمعيّات الرهبانيّة وللأبرشيّات. ومنها المستحقّات العائدة لمدارسها المجانيّة من وزارة التربية، كما المستحقّات العائدة لها من وزارة الشؤون الإجتماعيّة، وصولًا إلى المستحقّات العائدة للمستشفيات من وزارة الصحّة ... وسواها من مستحقّات أخرى لم تعمد الدولة اللبنانيّة والوزارات المختصّة بتسديدها منذ سنوات عدّة منصرمة ممّا أدّى وما زال يؤدّي إلى أضرار فاضحة وفادحة في كميّة الديون المتوجّبة إن من جرّاء عدم التسديد الفوري أو من جرّاء تدني قيمة العملة الوطنيّة.
11 إنّ الإحتفال بيوم الفقير العالميّ الذي جرى في الكرسيّ البطريركيّ في بكركي الأحد 19 تشرين الثاني الماضي، وجمع أكثر من عشرة آلاف مشارك بين معوّقين من مختلف المؤسّسات، وطلّاب مدارس ومعلّمين وإداريّين، وأطبّاء وممرضات وممرّضين، على الرغم من الأمطار الغزيرة، شكّل صرخةً بوجه المسؤولين في الدولة لإهمالهم الفقراء والمرضى والمعوّقين واليتامى والمؤسّسات التي تعنى بهم. ذاك اليوم شكّل بداية مسيرة مشتركة تقودها الكنيسة، محطّ آمال شعبنا الوحيد. وعليه، بالإضافة إلى إعرابي عن شكري الحارّ، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، لجميع الذين حضروا إلى بكركي أو تابعوا وقائع هذا النهار عبر وسائل الإعلام التي بثتّها مباشرةً مشكورة، وكلّ الذين نظّموا وسخوا، وأؤكّد أيضًا أنّ هذه الصرخة، صرخة الفقراء والمرضى والمعوّقين واليتامى، والجيل الجديد من الأطفال اللبنانيّين المحرومين من المستقبل، وصرخة كلّ من يرافقهم يوميًّا، لم يتمّ إطلاقها سدًى، بل تبقى حيّة بقوّة محبّة الكنيسة التفضيليّة للفقراء التي أعلنها ربّنا يسوع المسيح بميلاده ونهج حياته.
وُلد المسيح، هللويا!