أحمد الجمال
تعبت، لدرجة تتجاوز الإنهاك الذى من معانيه «الضنى والإعياء»، وحيث يقال «أنهك الجمل، أى لزق بالأرض عند بروكه»، وها هو الجمال لحق بالجمل.. نعم.. تعبت من تكالب الرزايا بفقد مزيد من الأصدقاء والأحباء، وبمتابعة ما لا يمكن وصفه فى غزة والأراضى المحتلة.. رزايا مثل الكلاب البرية الشرسة، التى أشاهدها تتكالب بوحشية وضراوة وكثرة على فريستها، حتى لو كانت من فصيلة السباع.
تعبت، وأظن أن الضمير يتعدى شخصى إلى كثيرين، لأننا، وبغير موت وحروب، لم نعرف تلك التى يسمونها فى الفصحى «بلهنية العيش»، وعن نفسى، فقد أتذكر «طشاش» أبى وهو مقرفص أمام الراديو ضخم الحجم ماركة «باى»، الذى اشتراه عام 1949 ليدير المؤشر، ومازالت أذناى تسمع غلوشة وشوشرة وكلامًا متداخلًا وممطوطًا إلى أن تهدأ يد الوالد عند سماع عبارة «هنا لندن»، ولا أدرى لماذا استقر فى ذاكرتى السمعية أنها كانت لزمن طويل تنطق بطريقة مثل ما كانت تنطق المذيعة اللندنية «مديحة المدفعى» تنطقها وبعدها نصوص نشرة الأخبار، وكأنها تخرج من جب عميق ومخيف!.
وكان الراديو موصولًا ببطارية «سايلة» أكبر حجمًا من بطاريات السيارات، ويأتى أحدهم ليحملها أمامه على ظهر حمار، ليذهب بها إلى ماكينة الطحين ليشحنها ويضيف ماء النار لجوفها.
ومنذ «هنا لندن»، التى أتذكرها طشاش، وربما كان عمرى ثلاث سنوات، إلى الآن- أى طيلة حوالى ثلاثة أرباع القرن- لم يتوقف الانفعال والتفاعل والإحباط والبهجة والسعادة والعنف والجبن والإقدام!.
فى 1950 أقدم أبى على إلحاقى بمدرسة قويسنا الأولية رقم واحد، ولا أدرى بأى قانون آنذاك ألحقنى، ولبست الشورت وحلقت شعرى ليتوزع طوله بين نمرة واحد ونمرة اثنين، وصنعت لى أمى «مخلة» من القماش السميك، وجعلت لها يدًا طويلة، كى أعلقها على كتفى، وتسلمت لوح «الأردواز »، وأذكر أن أول حرف «واو» كتبته ظللت أستدير بحلقته العلوية حتى أصبحت عدة دوائر متداخلة، فكان أول «زغد» أتلقاه من يد غليظة، لا أذكر اسم صاحبها مدرس العربى، بقدر ما أذكر العبارة المصاحبة للزغد «كفاية حلقات دوختها.. ومنزلها تشرب من الترعة»، لأن السطور انحرفت من يدى إلى أسفل اللوح!.
وتوالت «الزغدات» فى الدراسة وفى الحارة.. وفى المواصلات، وفى العمل، وفى خدمة العلم، وفى السجن، وفى الزواج.. وفى السياسة والصداقة.. وحتى الآن، وأنا على الكنبة أدخن أو أقرأ تتوالى الزغدات من شاشة الملاعين.. التليفزيون والمحمول.. وصحف الصباح ونباح كلاب الشارع فترد عليها كلاب الجيران والكلاكسات!.
وتبقى أكبر وأقوى وأعمق «زغدة»، وهى افتقاد من رحلوا وكانوا وحدهم الذين يخففون الوطأة ويساعدون على الالتئام.. وهى زوال المتعة بكل ما كانت تقترن به، ثم والأخطر هى التأمل والتفكير مجددًا، وفى كل الوقت، فى حكمة الخلق وجدواه منذ الصراع على الاستخلاف فى الأرض الذى استمر من حينها فى عالم الملكوت إلى الآن فى عالم الملك، وكثيرًا.. بل عادة.. ما أقطع الاسترسال فى ذلك بترديد عبارات بعضها متناقل من التراث الدينى وبعضها من تركيبى واختراعى!
تعبت، ولولا وجود من لا أريد أن أكرر لهم محنة فرضتها عليهم منذ أربعين سنة، لذهبت إلى ما لا ذهاب إليه.. المجهول المكانى، لأبقى فيه مجهولًا لا سبيل لمعرفتى إلا «الراجل العجوز الشايب اللى بيعدى الصبح وكانت العربية هتخبطه».
ثم.. ثم إننى لا أعرف لماذا وكيف كتبت ما سبق، وقد كانت خطتى أن أكتب عن المظاهرات التى شاركت فيها منذ أول مظاهرة عاصرتها وتقدمتها عام 1958 لتأييد الوحدة المصرية- السورية والهتاف للقوتلى وجمال عبدالناصر، وكان آخرها مظاهرة 30 يونيو 2013، وما هى آليات التظاهر وحال المشاركة أثناء اندفاعى إليه وفيه.. فسامحونى.
نقلا عن المصرى اليوم