عاطف بشاي
الضحك حقيقة جوهرية تتصل بجوهر حياة الانسان على الأرض، وتتشابك مع رغبته الأصيلة والعميقة في الخلاص من مآسيه المختلفة.. سواء كانت تلك المآسى نابعة من مجتمعه أو من حقيقة وجوده.. والضحك استعلاء على الحزن والقهر والإحباط والفشل.. ومن هنا تستمد فنون الضحك دائمًا قوتها العظيمة وسحرها الرائع.. وقد كان «أحمد رجب» (نوفمبر 1928- 2014) واحدًا من أهم هؤلاء السحرة، بل زعيم ظرفاء عصره، من خلال بابه «نصف كلمة» ونكاته الصارخة مع صديقه عبقرى الكاريكاتير «مصطفى حسين» أو قصصه القصيرة وشخصياته البديعة التي نسجها ببراعة وذكاء من ملامح أناس يعيشون بيننا في خليط عجيب ومتناقض.. ويشكلون في النهاية مثالب مجتمع وأطماع بشر.. وفى آخر كتبه الممتعة «يخرب بيت الحب»، يتناول 171 موضوعًا عن مشاكل الحب والزواج المختلة بين الزوج والزوجة، في إطار من الطرافة، التي لا تخلو من عمق السخرية المبطنة بالمتعة الذهنية والفكرية والمفارقة الضاحكة في التباين بين التركيبتين النفسيتين للرجل والمرأة، وللأسف لم يحظَ الكتاب باهتمام إعلامى أو نقدى يستحقه.
يرى «أحمد رجب» في نزاله الساخر مع المرأة- والذى هو موضوعه الأثير الدائم- أن الرجل احتكر النشاط العقلى والفكرى في عصور تخلف المرأة، فكتب عنها ما يشاء وأعطى لنفسه حق إصدار الأحكام المطلقة حسب الحال والمزاج.. ذلك أن المرأة هي التي تكيف العلاقة بينها وبين الرجل.. وهى التي تحدد هذه العلاقة إذا كانت صداقة بريئة أو حبًّا أو زمالة أو قطيعة.. وهكذا تختلف الأقوال المأثورة للرجل تبعًا لموقفها منه، فإن هي أقبلت عليه قال عنها: إذا أحبتك امرأة فهى تحبك حتى آخر قرش في جيبك.
ويحاول أحمد رجب في كتابه أن يخفف من غلو وتطرف الكاتب النمساوى، الذي أكد أن النساء كاليهود يعبدن المال.. وهن بلا ضمير أو خلق، وموهوبات في المكر والخديعة نتيجة الاضطهاد الطويل من الرجل لها، مما جعل كيدهن خطرًا ومدمرًا.. لكن يمكن أن يُقال إن هناك صراعات تحكمها علاقة انفعالية اسمها الحب. والحب بين الرجل والمرأة هو في حد ذاته صراع، فالحب يتنكر وراء أقنعة كثيرة.. أحيانًا يضع قناع النفور، وأحيانًا يضع قناع الانتقام، فعن الحب نقرأ أجمل الرومانسيات في الكتب وعن الحب أيضًا نقرأ أغرب الأخبار في صفحة الحوادث.
وتقودنا الجملة الساخرة السابقة إلى مشكلة «العنف الزوجى»، فيعارض فيها «أحمد رجب» ما تُشيعه الجمعيات النسائية عن ضرب الرجل لزوجته مكسورة الجناح، التي لا تجد الحماية الكافية من المجتمع الذكورى، فيقول إن الرجل سوف ينقرض، وإن المرأة سوف تستولى على العالم، وسوف تكون هناك ديكتاتوريات نسائية مستبدة تملأ المعتقلات بالرجال، حيث التعذيب وغرف الغاز.. وقد تسلك حكومات النساء مسلك العناكب والنمل والنحل في قتل الزوج بعد التزاوج مباشرة.. فيضم جهاز العروس مسدسًا تُفرغه في دماغ العريس، بعد ليلة الزفاف، وقد تعمد بعض الحكومات النسائية إلى أن تجبر الرجل على أن يرتدى زيًّا خاصًّا بلا رقبة حتى يسهل لكل امرأة في الشارع ضربه على قفاه، وقد أوردت وكالة «رويترز» تقريرًا صحفيًّا يؤكد أن تلك النبوءات قد ظهرت بوادرها، إذ نقلت الوكالة، من «دكا»، عاصمة «بنجلاديش»، أن أفواجًا هائلة من الأزواج المقهورين طلبوا حماية السلطات، بعد تعرضهم لضرب مبرح وتعذيب غير إنسانى على أيدى زوجاتهم.. وأن لجنة جديدة لمقاومة تعذيب الرجل نظمت مسيرة في مدينة «رانجبور» شمال «بنجلاديش»، انتهت بتقديم 14 طلبًا إلى حاكم المقاطعة، من بينها تشكيل محكمة خاصة للنظر في حوادث العنف والإيذاء البدنى الشديد التي يتعرض لها الأزواج، بالإضافة إلى الإذلال والقهر النفسى.
ويقول أحمد رجب معلقًا إنه لفرط بشاعة التقرير الصحفى الذي أوردته «رويترز».. «أتخيل زوجًا تعسًا يسير في الشارع هائمًا على وجهه، وقد تنكر في زى المرأة حتى لا تتعرف عليه زوجته.. كما أتصور زوجًا آخر قد فر إلى بيت أمه يحتمى بها، فيجدها قد كتفت والده بالحبل..».
■ ■ ■
وفيما يتصل بمفارقة الحب والزواج.. يؤكد أحمد رجب: «الحب أيام جدتنا كان عارًا لأن المثل الشعبى يقرن الحب بالجريمة (إن سرقت اسرق جمل وإن عشقت اعشق قمر)، فالعشق في الزمن القديم يستحق العقوبة كالسرقة.. فإن أقدمتَ على العشق فليكن المعشوق عظيم الشأن جمالًا وفتنة حتى يهون ما سوف يصيبك من عقاب ولوم.. كما يضىء المثل الشعبى النور الأحمر بالنسبة للغانية، التي هي بشدة براعتها في فنون الإغراء والإغواء وتحريض الرجل على الاتصال بها... تتكحل بإبرة، وتتمخط بمسمار».. وعوامل الجذب عند الرجل لا تتغير، فالرجل «عيبه في جيبه».. و«بفلوسك بنت السلطان عروسك».. و«اللى معاه قرش يساوى قرش»، و«القرش يلعب القرد».. والقرد طبعًا هو الرجل.
أما عن قصص الحب الخالدة في التاريخ فمن الملاحظ أن كل العشاق كانوا متفرغين للهوى، دون أن يشغلهم عنه كسب الرزق.. بعضهم أغنته حياة البداوة البسيطة عن طلب المال، مثل «قيس»، وبعضهم وُلد بملعقة ذهبية في فمه، مثل مارك أنطونيو.. ولو كان الملك إدوارد الثامن قد وُلد في أسرة بسيطة، فربما تغير مسار القصة لأن كسب العيش كان من الممكن أن يعوقه عن التفرغ للحب.. وربما اضطر إلى السفر- بعد الدوخة على عقد عمل في الخارج- حتى يدبر ثمن شقة.. فالحب الناجح هو مجموعة ظروف حسنة، أهمها التفرغ. لهذا نجد في الأفلام- سواء القديمة أو الحديثة- بطلًا يحب طول الفيلم، ولا تعرف له مهنة أو تكون له مهنة، ولكنها هامشية.. فالحب هو المهنة الأصلية للبطل.
لقد ظهرت قصص الحب الخالدة عندما كانت الحياة سهلة، والرجال «عاطلين ورايقين» و«نازلين حب»، قديمًا بالقصائد في البادية، وحديثًا بالجيتار تحت النوافذ.
نقلا عن المصرى اليوم