بقلم: محمود عزت
ظل عرب الجزيرة العربية في العصور الجاهلية ردحًا من الزمن يمارسون عادة وأد البنات الإجرامية، دون وازع ولا ضمير ولا رحمة ظنًا منهم أن الأنثى مجلبة للعار لعائلتها!
وشيء من هذا على ما يبدو كان الدافع وراء إلغاء نظامنا التعليمي لمادة الرسم، بعد أن اختفت من مدارسنا الملاعب وبالتالي مادة التربية الرياضية، بالتوازي مع التخلص والقضاء المبرم على دروس التربية الموسيقية.. وبهذا فقد أعادت هذه القرارات الإلغائية إلى الأذهان فكرة الوأد بصورة مستحدثة بل ومبتكرة، فبعد أن كان الوأد للبنات أشرف الكائنات –كما جاء في شعر الراحل العظيم صلاح جاهين- وأرقها وأجملها، جاء عصرنا أو بمعنى أصح جاءت سلطاتنا التعليمية بالوأد للإبداع ومنع خلق جيل من الأطفال يتذوقون الفن رسمًا أو موسيقى أو حتى تربية رياضية.
مسكين –حقيقة- هو الطفل الذي تُنتزع منه كل وسيلة للإبداع، ونفرض عليه قضاء يومه الدراسي في تحصيل الحساب والعربي والتاريخ والجغرافيا و....... و...... دون منحه فسحة من الوقت يخرج خلالها طاقاته الوجدانية الكامنة في نفسه، رسمًا أو عزفًا للموسيقى أو سماعًا لها أو بممارسة الرياضة في أي صورة ما شاء الطفل إبداعها!
فهو طفل بائس حكمنا عليه بكتمان أحاسيسه الرقيقة وموهبته المفترضة الساكنة، فلا يجد سبيلاً للتعبير عنها بصورة طبيعية صحيحة علمية!
فماذا ننتظر من هذا الطفل إلا أن يصبح ساهمًا مكتئبًا تعيسًا وبالتالي غير قادر على تحصيل دروسه؟
تخلت بعض مراكز الأبحاث العالمية عن مقياس متوسط دخل الفرد كمعيار وأضحى معيار وقت الفراغ مقياسًا لتقدم الأمم والمجتمعات، فالمجتمع الذي يتمتع شعبه بقدر كبير من وقت الفراغ يستغله في الإبداع في أي شكل كان أدبًا أو فنًا أو غيرهما، هو مجتمع متقدم ومؤهل لاحتلال مكانة بين الأمم المتندينة
فماذا يعني أن نلغي تدريس مادة الرسم بمدارسنا ثم لا نعده ضمن المجموع الكلي للمواد الدراسية الأخرى، بحيث يكون عنصرًا من عناصر تميز الطفل عن غيره؟، وماذا يعني أن تخلو مؤسساتنا التعليمية من دروس التربية الموسيقية؟، وأخيرًا ماذا يعني أن تتحول الملاعب في مدارسنا إلى فصول دراسية ليختفي معها المتنفس الطبيعي والروح الرياضية؟
ألا يبعث هذا على الأسف والحزن؟ لأننا بكل بساطة ورعونة وتهور أقمنا السدود ونسفنا الجسور التي يعبر بها الطفل عما قد يشعر به أو تجيش بها نفسه، ونجعله فريسة سهلة للكبت والعقد النفسية..
لا أدري المبرر المنطقي أو القانوني وراء وأد –أقصد إلغاء- تدريس مادة الرسم بعد القضاء على حصة التربية الموسيقية والتربية الرياضية؟ ألا يولي نظامنا التعليمي اهتمامًا لتربية الوجدان والعقل السليم وبناء الشخصية المتوازنة المتكاملة السوية؟
إن إعطاء الطفل فرصة خلال اليوم الدراسي لإخراج طاقاته النفسية الكامنة لكفيل أن يخلق منه إنسانًا ومواطنًا صالحًا، ويدفعه للذهاب إلى مدرسته سعيدًا مسرورًا كل صباح لما سيلقاه من وقت فراغ في الرسم والموسيقى والرياضة.
ما زلت أذكر هذا الطفل أو التلميذ الذي كان يقضي مساءه يقظًا بعد ساعات الليل حتى يطلع نور الصباح لأنه سيتمتع هذا اليوم بدرس الموسيقى!! التي جعلته يتحمل مشاق اليوم الدراسي الطويل في تحصيل العربي والحساب والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية..
ألا يقلع صاحب القرار التعليمي بمصرنا الحبيبة عن اعتبار التلاميذ فئران لتجاريه المتعسفة؟
وأقصد بها تجاربه بإلغاء مواد الإبداع من رسم وموسيقى وتربية رياضية في سبيل توفير دراهم معدودة هي أجور معلمي هذه المواد الكفيلة ببناء نفوس سليمة ووجدان متزن وجيل من المواطنين الأصحاء عقليًا ونفسيًا..!
أتمنى أن يشمل التطوير الموعود لنظامنا التعليمي نظرة متأنية عملية يعيد بها مواد الإبداع إلى مؤسساتنا ومعاهدنا التعليمية، وأن يتخلى صانع القرار التعليمي عن سياسة وأد الإبداع في المجتمع المصري.
دبلوماسي مصري