سامح فوزي
يبهرك الإعلام الغربى فى مناسبات كثيرة بتنوعه، خاصة إزاء الأحداث الكبرى، حتى وإن كان متحيزا، تحركه المصالح أكثر من القيم. فى حرب أوكرانيا، على مدى عشرين شهرا، رأيت الكثير من الأصوات التى تنتقد روسيا، لكن كانت هناك آراء أخرى ترى الأمور بمنظور مختلف. هذا ما نشاهده فى حرب غزة. رغم أن الإعلام الغربى أظهر تحيزا أعمى لإسرائيل منذ 7 أكتوبر الماضى، ولا يزال، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور آراء نقدية بشدة لإسرائيل، خاصة مع ارتفاع عدد الضحايا والدمار والخراب فى غزة، وغلب عليه استعراض الكفاءة المهنية فى طرح القضايا من زوايا مختلفة: الحدث، الرأى، التحليل، القصة الانسانية، التحقيق الاستقصائى، الخ، والذى مهما كان متحيزا، فهو يقدم أيضا مساحة من التعددية فى الرأى. وهناك الكثير من أوجه التمزق الاجتماعى الذى ضرب المجتمع الإسرائيلى، عرفناها من خلال المقالات والتحليلات المنشورة فى وسائل الإعلام الغربية، وكذلك المنابر الإعلامية الإسرائيلية، والتى وإن كان بها دفاعا عن إسرائيل، ونظرة قاتمة للفلسطينيين، فإنها تشمل أيضا انتقادات واسعة لأداء الحكومة الإسرائيلية، وتحليلا لما يحدث فى المجتمع من اضطرابات، وآراء نقدية لكتاب وباحثين ومؤرخين يهود ينظرون إلى مستقبل إسرائيل فى سياق تاريخ اليهود، حاضرا ومستقبلا. ومن الآراء التى قرأتها منذ أيام تحليلا لأحد أساتذة التاريخ اليهودى يرى أن الأزمة الحالية ليست فى غزة، ولكنها فى تكوين المجتمع الإسرائيلى، الذى يتمزق على يد الجيل الثالث من أبنائه، الذى لا يدرك حجم التحديات التى تواجه مجتمعه، وهى أزمة مزمنة فى التاريخ اليهودى منذ القدم.
الإعلام المتعدد دون شك متعة، وسياحة ذهنية، حتى وإن كان به آراء تصطدمك.
فى الإعلام العربى التركيز الأكبر، كما يبدو، على الأحداث، وتطوراتها، وهو أمر مفهوم، ولكن هناك جوانب أخرى تتعلق بالتحولات الاجتماعية، والتأثيرات النفسية، والنظرة المستقبلية فى المجتمع الإسرائيلى، لا تلقى ذات الاهتمام، رغم أن الصراع فى الشرق الأوسط، ليس فقط سياسيا أو عسكريا، لكنه أيضا اجتماعيا، ونفسيا. هذه النوعية من الكتابات نحتاج إلى الاقتراب منها، والتعرف عليها، حتى ندرك المجتمع الإسرائيلى من الداخل، ليس فقط فى تشكيلاته السياسية، ولكن فى تكوينه الاجتماعى. ويبدو أن العقلية التى تحكم نظرتنا إلى إسرائيل، تسيطر أيضا على نظرتنا تجاه غزة. فنحن نرى إسرائيل كتلة واحدة، مثلما نرى غزة مدينة منكوبة تحت القصف، دون أن ندرك أكثر تكويناتها الاجتماعية، وطبيعة سكانها، والحياة فيها إلا فى أضيق حدود. بالطبع زخم الأحداث، واتساع نطاق التدمير يجعل الكل فى خندق الدفاع عن الفلسطينيين العزل الذين يتعرضون لعقاب جماعى متعدد الأشكال، ويضع أصحاب الآراء النقدية فى حرج، ولو إلى حين. ورغم ذلك، فسوف يأتى وقت نجد أنفسنا فيه مطالبين بالخوض فى قضايا متعددة، لا تكتفى بالنظر إلى الأزمة بوصفها احتلالا وعدوانا واستيطانا وقهرا من جانب إسرائيل ضد الفلسطينيين الصامدين، فهذه باتت واضحة أمام أعين قطاعات واسعة من شعوب العالم، ولكن أيضا مسئولية الطرف الفلسطينى، من حيث القدرة على بلورة مشروع وطنى، واتفاق إرادات كل الفصائل والقوى على إنشاء الدولة الفلسطينية، ووجود سلطة قادرة على الحكم، والإدارة، والمساءلة. ونتذكر أن الانقسام الفلسطينى كان عاملا مساعدا لإسرائيل فى تقويض عملية السلام، مثلما كان سببا فى أضعاف الموقف الفلسطينى، وليس أدل على ذلك، من إعلان إسرائيل رغبتها فى تدمير حماس، وفى الوقت ذاته تجرى مفاوضات ــ ولو غير مباشرة ــ مع حماس للافراج عن الرهائن. أظن حين تصمت النيران، ونتمنى صمتها قريبا، سوف تحدث مراجعات واسعة ليس فقط فى إسرائيل، ولكن أيضا على الجانب الفلسطينى.
نقلا عن الشروق