تاريخ كنيستي (142)
القمص انجيلوس جرجس شنودة
كان القرن السادس ينذر بكارثة إيمانية بإصرار بيزنطة وروما على تغيير هوية المسيحية بنشر الخلقيدونية وألقى الليل بظلاله على الشرق كله حين اضطهد أباطرة بيزنطة كنائس مصر وأنطاكية للخضوع لإيمان لاون. ثم اجتاح الفرس الشرق ثم اجتاح العرب نصف العالم.
وفي الخمسين عاماً ما بين جستنيان، وبين اجتياح العرب كانت الأحداث متصارعة وعنيفة جداً، ولكن بالرغم من هذا كانت كنيستنا القبطية زاخرة بالقديسين في هذه الفترة.
ووجدت كنيستنا القبطية أن الشعب لابد أن يكون واعياً بالتاريخ والأحداث اليومية وأن مجد الكنيسة في عمل اللـه في قديسيه، فكتبت السنكسار ليكون استكمالاً لسفر أعمال الرسل وحتى يثبت في أذهان الأقباط أن القداسة مرتبطة بالإيمان أيضاً مع الحياة اليومية. وهذا العصر رغم من آلامه لكن كان زاخراً بالقديسين ومن ضمن القديسين في هذا العصر الأنبا دانيال قمص الأسقيط، فقد كان في هذه الفترة كل منطقة بها تجمع رهباني لهم قس يخدم الأسرار المقدسة، فكان للأسقيط قس، ولمنطقة القلالي لها قس، ونتريا لها قس. وقد كان أنبا دانيال قمص الأسقيط أي الكاهن والأب المدبر للرهبان.
ولد الأنبا دانيال عام 485م في الصعيد، وترهب في سن صغير جداً وقد عاصر آلام البرية من هجمات البربر. والبربر هم القبائل القادمة من الغرب أي ليبيا وجنوب الجزائر الذين يسمونهم الأمازيج، وكانت تغير على مصر دائماً، وأحياناً تحتل أماكن، وفي طريقها تهدم الأديرة وتسرقها، وتأخذ الرهبان أسري لتبيعهم كعبيد، وهذه كانت القبائل التي تُغير على مصر منذ سنوات كثيرة من عصر القدماء المصريين، واستطاعوا أن يستوطنوا في الدلتا، ومنهم من حكم مثل أسرة شيشنق الذي حكم مصر ما يقرب من 300 سنة.
وقد اُسر أنبا دانيال ثلاث مرات من قبل هؤلاء البربر، وفي أول مرة أنقذه أحد البحارة، وثاني مرة هرب منهم، وفي ثالث مرة قتل الشخص الذي أسره، فشعر بضيق شديد، فذهب إلى البابا تيموثاوس الثالث واعترف بجريمته، فحاللـه البابا، ولكنه ذهب وسلم نفسه للسلطة، ولم يقبضوا عليه لأنه قتل مجرم مطلوب للعدالة واعتبروه بطل، ولكن أنبا دانيال شعر بوخز الضمير، فوضع على نفسه قانون توبة، بإنه أحضر إنساناً مشلولاً إلى قلايته وظل يخدمه فترة طويلة، كقانون للتوبة.
في حياته حدثت الكثير من القصص المحفورة في تاريخنا القبطي والروحي مثل:
ـ قصة أولوجيوس قاطع الأحجار
الذي كان إنساناً قديساً، محباً للغرباء وكان يخدم الآباء في البرية، فكان عمله هو قطع الأحجار فيأخذ احتياجه ويتصدق الباقي من أجرته للفقراء، وكان يتردد على الأنبا دانيال، الذي حينما رآه إنه إنساناً قديساً، طلب إلى اللـه أن يعطيه غني، ليساعد الفقراء أكثر، فجاء له صوت: "سأستجيب لك، ولكن هل تضمن نفسه إنه لن يضيع بسبب كثرة الأموال؟".
فرد عليه الأنبا دانيال: "أستجيب لي، وأنا سأضمن نفسه".
وفجأة صار أولوجيوس غنياً جداً بعد أن وجد كنزاً، فذهب إلى القسطنطينية هارباً بأمواله، وصارت له تجارته الخاصة، وهناك فسد تماماً وكانت أمواله سبباً في ضياعه.
ووصلت الأخبار إلى الأنبا دانيال أن هذا الرجل التقي أولوجيوس، قد انحرف تماماً، وسلم نفسه للشيطان، وصار قاسي القلب، لا يهتم بالفقراء، وينفق أمواله على الأمور العالمية. فوقف الأنبا دانيال ليصلي وصرخ للـه يقدم توبة عن نفسه لأنه تدخل في تدبير اللـه للبشر وطلب من الرب أن يدبر عودة أولوجيوس عن طريق الشر بأي طريقة.
وبالفعل في عام 532م صارت فتنة في القسطنطينية، أدُين فيها أولوجيوس وقُبض عليه، وكاد أن يُعدم، ولكنه استطاع أن يهرب إلى مصر وترك كل ثروته هناك، وجاء إلى أنبا دانيال ليقدم توبة، وعاد مرة أخري إلى حياته الأولي قاطعاً للأحجار، محباً للفقراء.
ـ وهناك قصة أخري في حياة أنبا دانيال عميقة جداً، فقد كان هناك ديراً للراهبات على أطراف الإسكندرية، وكان أنبا دانيال يذهب إليهن كل فترة يأخذ اعترافاتهن ويقيم لهن قداساً، ويشرف عليهن روحياً، وكان حينما يأتي أنبا دانيال إلى أديرة الراهبات، يُفتح له الباب فوراً، فأتفق أحد اللصوص مع مجموعة معه، إنه سيدعَّي إنه أنبا دانيال قمص الأسقيط، وسيخبئ وجهه ويذهب ليلاً ويدخل الدير ثم يسهل لمن معه الدخول إلى الدير. وبالفعل دخل هذا اللص الدير على أنه أنبا دانيال قمص الأسقيط، فقرعت رئيسة الدير الجرس، ليرحبوا به وكان يغطي وجهه، وغسلوا له رجليه، وتوسلوا إليه أن يصلي على راهبة ضريرة، فأجابهم باستهانة: "أجعلوها تغسل وجهها بماء غسيل رجلي".
فالراهبة الضريرة رفعت قلبها وقالت: "يارب يسوع بركة بصلاة القديس أنبا دانيال اشفي عيني". وبإيمان غسلت وجهها من ماء غسيل رجليه، ففتحت وصارت عينيها ترى ووسط فرح الراهبات وتمجيد الرب أنزعج اللص جداً حينما رأي ذلك، ثم وقف واتجه نحو الباب وهرب، وذهب يبحث عن أنبا دانيال قس الأسقيط الذي مجرد اسمه عمل هذه المعجزة، ودخل إلى الأسقيط، وتقابل مع أنبا دانيال، الذي علم بروح اللـه ما صار وقال له: "اعرف ما حدث لك في دير الراهبات"، فطلب منه اللص أن يقدم توبة، ويعتمد، وبالفعل صار أحد آباء البرية.
ـ وأنبا دانيال هو صاحب القصة العظيمة للراهبة الهبيلة، فقد ذهب إلى أحد أديرة الراهبات، فرحبت به الأم الرئيسة، وطلبت منه أن يبارك الراهبات، فسألها: "هل كل الراهبات في هذا الدير قد حضروا؟"
فأجابته: "لم يبق سوي راهبة واحدة هبيلة، ولا نريد أن تُزعجك، فليس مقدارك أن تضع يدك عليها".
فطلب من الأم الرئيسة أن تحضرها، فجاءت تتصنع الهبل، فوضع يده عليها وقال لها: "يا أم يا قديسة لقد أتيت خصيصاً لك".
وقال للراهبات: "أن هذه الهبيلة هي قديسة عظيمة، وقد أتيت لأجل توبيخكن، لتعاملكن معها بقساوة، ولكنها احتملت كل هذا بصبر وتقوى لأنها قديسة وقد أرسلني الرب لأجلها اليوم".
وقص عليهم كيف أنها من عائلة كبيرة جداً، وأنها تصنعت بأنها هبيلة، لكي تخفي عظمة نشأتها ولا تأخذ كرامة الترك، واحتملت الإهانة بشكر، فذهبن كل الراهبات يحاولن طلب السماح منها.
أما هي فذهبت إلى قلايتها وكتبت ورقة قالت فيها: "حينما كنت هبيلة في أعينكن، كنت أخذ يومياً بركة، أما الآن وقد فقدت تلك البركة، لم أعد أستحق أن أعيش في وسطكن". وتركت الدير وهربت ولم يعرف أحد أين ذهبت لتعيش حياة القداسة.
وهكذا ترى عزيزي القارئ بينما كانت أقدام الجنود البيزنطيين تسحق الآباء وتهدم الكنائس في محاولات لجعل كنيستنا القبطية خلقيدونية الإيمان كانت رائحة القداسة تفوح من كل أرجاء الكنيسة في البيوت والمدن والقرى والأديرة. هكذا نحن المسيحيون حين ندخل إلى معصرة الكرم تفوح من الكنيسة رائحة المسيح.
لإلهنا كل مجد وكرامة إلى الأبد آمين