د. سامح فوزى
الحروب لها تداعيات بعيدة الأمد، لا تقتصر على الأطراف المتحاربة. فى حرب أوكرانيا، كان التأثير على أوروبا واضحًا على مستويات عديدة، أبرزها عودة الحرب إلى أراضيها، وتفجر مشكلة اللاجئين، والبحث عن مصادر أخرى للطاقة بعد تراجع إمدادات الغاز الروسية. ومن التداعيات كذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والطاقة، والنقل، وهى ذات المعاناة التى امتدت، ربما بصورة أكثر قسوة، إلى دول كثيرة فى إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.

وقد غيرت الحرب من توجهات دول كبرى مثل الولايات المتحدة، حيث اضطرت إدارة الرئيس بايدن إلى طرق أبواب السعودية من أجل النفط، والحد من علاقات الرياض المتنامية مع بكين، بعد أن ظلت لنحو عامين تنتقد توجهات الحكم فيها خروجًا على طبيعة العلاقات بين الدولتين. نفس الأمر يتكرر الآن مع حرب غزة، حيث اضطرت واشنطن إلى الحضور بكثافة فى الشرق الأوسط لحماية إسرائيل، عسكريا وسياسيا، بعد أن سعت لفترة إلى الانسحاب من المنطقة لصالح الوجود فى مناطق أخرى من العالم. ويمثل ذلك أخبارا غير سارة لدول أخرى مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية. يبدو أن كل الحسابات الأمريكية تحطمت فى غزة. فقد عملت إدارة بايدن على تحقيق التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، وكانت تمضى بوتيرة متسارعة لإبرام اتفاق بين إسرائيل والسعودية، وبناء ترتيبات أمنية فى المنطقة فى مواجهة إيران. لم يتحقق ما أرادت، وأكثر من ذلك بات تحققه صعبًا فى ظل هذه الأوضاع. فقد تحسنت العلاقات السعودية ـ الإيرانية برعاية صينية، والتقت دول بينها تباين فى بعض المواقف مثل إيران وتركيا ومصر فى القمة العربية الإسلامية منذ أيام، والسبب هو مواجهة العدوان الإسرائيلى الوحشى على قطاع غزة، والضفة الغربية والقدس. وبدلا من أن تحجم السياسة الأمريكية إيران، وتحد من طموحاتها الإقليمية، وسعت حرب غزة من نطاق تأثيرها، فهى الدولة التى لديها تنظيمات عديدة تدور فى فلكها، تهدد إسرائيل، والمصالح الأمريكية، ولم تعد تكتفى بالمواجهة التقليدية بين إسرائيل وكل من حزب الله شمالا، وحركة حماس جنوبا، بل هاجمت قواعد عسكرية أمريكية فى العراق وسوريا، وانطلقت صواريخ الحوثى من اليمن إلى إسرائيل.

ومن التداعيات الملفتة أيضا لحرب غزة ظهور انقسامات شديدة فى دوائر صنع القرار فى العواصم الغربية، فكما أن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة لا تعرف متى سوف تنهى عدوانها على غزة، وعلى أى شكل سيكون القطاع بعد الحرب، فإن واشنطن وسائر العواصم الغربية تشهد اضطرابًا فى الرؤية، وتخبطا فى المواقف، وليس خفيا أن هناك خلافات داخل دوائر صنع السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، طفت على السطح فى الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وأروقة الاتحاد الأوروبى، وهناك استقالات، وخطابات جماعية احتجاجية من دبلوماسيين، وخلافات فى الرأى على وسائل الإعلام. واللافت أن أوروبا، ومن خلفها الولايات المتحدة التى أظهرت وحدة فى المواقف فى حرب أوكرانيا، تعانى الآن اضطرابا فى حرب غزة. هل جاءت توقعات الرئيس الروسى بوتين متأخرة بعض الشيء؟ فقد راهن، حسب تقارير الاستخبارات التى قدمت له قبل حرب أوكرانيا على أن أوروبا سوف تتخبط، ولن يكون لها موقف موحد حيال روسيا، ولكن ما حدث هو العكس، فقد أظهرت تماسكا غير معتاد، لكنه على ما يبدو لم يصمد فى غزة رغم أن المواقف المعلنة متقاربة، لكن الخلافات السياسية ليست قليلة، وهى مرشحة للازدياد إذا ظل العدوان الإسرائيلى مستمرًا.

قد لا يكون أمام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، كما ذكر الكاتب توماس فريدمان فى مقاله منذ أيام فى صحيفة نيويورك تايمز، سوى اللجوء إلى حل الدولتين حتى يحافظوا على إسرائيل ذاتها، ويحولوا دون اندلاع مواجهة عسكرية شاملة فى الشرق الأوسط. وبذلك يتحقق الانتصار الحقيقى بالنسبة لهم، وليس القضاء على غزة وأهلها. وقد يكون النجاح فى الشرق الأوسط حال تحقيقه تعويضًا عن الإخفاق الظاهر فى أوكرانيا، فقد تبين خلال الأشهر الماضية أن الحرب التى تقودها كييف بالوكالة عن حلف الناتو لن تنتهى بالانتصار على روسيا، حيث تشير تطورات الأحداث إلى أن الجيش الأوكرانى لن يتمكن من استرداد الأراضى التى استولت عليها موسكو سواء بالحرب أو حتى بالمفاوضات، وسط تشتت الدعم العسكرى الأمريكى بين كييف وتل أبيب، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، وتزايد المبارزة بين الديمقراطيين والجمهوريين حول جدوى دعم أوكرانيا عسكريا وماليا، فى حين أن دعم إسرائيل لا يزال حتى الآن موضع اتفاق.
نقلا عن الاهرام