مدحت بشاي
تزداد وتيرة وبشاعة الحرب اشتعالًا على أرض غزة، والضحية فى كل الأحوال شعبُها الطيب.. وها نحن نتابع بأسى عبر كل وسائط الميديا مشاهد هرولة مواطنيها فى دروبها يحملون ذويهم عقب إصاباتهم أو رحيلهم عن عالمنا الذى ضن عليهم بكل فرص التداوى أو تكفين من استشهد منهم.. أطفال ونساء يحاول الشباب إخراجهم من تحت أنقاض بنايات سكنوها وضمت معهم أحلامهم وأمانيهم للحاضر والمستقبل الفلسطينى، يستبسلون فى إخراجهم دون وجود أى معدات أو أجهزة إنقاذ عصرية معاونة، ويواصل الأهالى البحث عن ذويهم والتنقل من موقع إلى آخر، فى مشاهد مأساوية دموية مرعبة.
بينما تعيش غزة وشعبها تلك الأجواء الخانقة البشعة، يصل وزير الخارجية الأمريكى فى زيارة للحليف الإسرائيلى، ليطلق تصريحه الأول بأنه ينتسب دينيًا لليهودية، وأنه جاء ليعلن دعم الأمريكان ورئيسه لحق الصهاينة فى الدفاع عن إسرائيل، وكأنه يُعلن أنه جاء داعمًا ومُدافعًا عن اليهودية، ويبقى السؤال: لماذا إقحام الدين على لسان دبلوماسى كبير والممثل للدولة الأكبر فى العالم؟!.
وعلى الجانب الآخر المقاوم، يرى أشاوسهم أنهم جماعة تمارس مقاومة دينية يعلنونها مقدسة دفاعًا عن الدين، ولم يسأل قيادات حماس أو صهاينة إسرائيل: ماذا يريان وكيف يُقيمان الحال عند وقوع هزيمة المحتل بقناعات دينية أو هزيمة المقاومة الدينية، فهل سيرونها هزيمة للدين؟!
ولأن الأديان فى النهاية لها تلك المساحة الهائلة فى قلوب ووجدان تابعيها، ولكن ـ للأسف ـ ونتيجة لحالة التوتر المذهبى والدينى وحالة العداء المتبادل فى كل الدنيا، باتت هناك معاناة من ظاهرة (فوبيا الأديان)، وصار ذلك المؤمن المتدين يضع نفسه فى مربعات الدفاع عن كل حرف وآية بكتابه الروحى وتعاليم الدين، بتصور أن أى محاور على الطرف الآخر جاء إلى الدنيا لإزاحة دينه من الوجود، أو فى أحسن تصوّر أنّه مكلف بتشويه دينه أو مذهبه ليتوارى ويختفى ويتصاغر فى دنيا يبتغيها أن تكون لدين أو مذهب واحد فقط.
تحكى لنا الكاتبة «هنادى وليد الجاسم»: «قرأت فى إحدى المرات قصة لسفير أوروبى كان يزور عاﺻﻤﺔ تعبد إحدى طوائفها الدينية (البقر)، وﻛﺎﻥ السفير ﻳﻤﺮ ﺑﺴﻴﺎﺭﺗﻪ ﻣﻊ ﻗﻨﺼﻞ بلاده، ﻭﻓﺠﺄﺓ ﺭﺃﻯ شابًا ﻳﺮﻛﻞ ﺑﻘﺮﺓ، ﻓﺄﻣﺮ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺳﺎﺋﻘﻪ ﺑأﻥ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﺑﺴﺮﻋﺔ، ﻭﺗﺮﺟّﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻣُﺴﺮﻋًﺎ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ (ﺍﻟﻤﻘﺪﺳﺔ) ﻳﺪﻓﻊ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﺏ المعتدى ﺻﺎﺭﺧًﺎ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﻭﻳﻤﺴّﺢ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﻃﻠﺒًﺎ للصفح ﻭﺍﻟﻤﻐﻔﺮﺓ، فهو يرى أن مثل تلك الممارسات ﻫﻲ ﺟﻴﻮش الغرب ﻓﻲ ﺗﺴﺨﻴﺮ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ التى يمكن السيطرة على مقدراتهم بانتهازية»!.
وعلى صعيد آخر، هناك قراءات مختلفة لعقائد وتعاليم الأديان، أتذكر ما قاله الرئيس الفرنسى السابق «فرانسوا أولاند» فى مؤتمر «الديمقراطية فى مواجهة الإرهاب»، وتأكيده «أنه يجب علينا الكفاح جميعًا ضد التطرف والإرهاب، ولابد من العمل على بناء (إسلام فرنسى)»، وأضاف «أولاند»: «إن الفرنسيين مع اختلاف دياناتهم والعرق واللون لهم حقوق وواجبات متساوية، ففرنسا لا تميز بين أبنائها، وهو سبب قوتها وفخر أبنائها بها».. وتابع: «النموذج الفرنسى مهدد، ونرى سباقًا لتفكيك النموذج الاجتماعى.. وهنا يكمن الخطر؛ لأن النموذج الاجتماعى لابد أن يتم إصلاحه ليكتمل ويتكيف مع التطلعات الفردية ».
إنها إذن الأفكار الملتبسة والانتهازية من جانب أهل الغرب، وردود أفعالهم على ممارسات جماعات التشدد ومن يمارسون التجارة بالأديان بعد تشويه آياتها والإصرار على لىّ عنق رسائلها، وهى التى أخافت الرئيس الفرنسى السابق وجعلته يُطلق على الملأ تصريحه مخاطبًِا أكثر من 6 ملايين مسلم يعيشون فى فرنسا، معلنًا تخوفه من تفكك النظام الاجتماعى الفرنسى، وعليه يجب الكفاح للوصول إلى «إسلام فرنسى».. فهل نحن بتنا فى انتظار عالم جديد لدول لها علم وجنسية وأيضًا دين يتغير مسماه وفق انتسابه لاسم الدولة؟!
وبمناسبة «الإسلام الفرنسى» المختلف، فقد يبدو أن هناك أيضًا على سبيل المثال «مسيحية إفريقية» مختلفة.. أذكر أنه وبينما كنت أزاول عملى بإحدى مؤسسات دولة عربية عشت على أرضها عدة سنوات، دخل مدير المؤسسة بصحبة زميل جديد ليقدمه لنا، وهو قادم من دولة إفريقية، وقال إنه ترك زوجته الثانية وأولادها إلى حين التعرف على ظروف عمله الجديد، وعندما أبديت دهشتى لجمعه بين زوجتين وهو مسيحى الديانة، رد علىَّ الزميل الجديد وهو يتناول طعامه البروتينى الحيوانى فى أيام صيام مسيحية: «مين قال إن المسيحية فيها تعاليم تمنع تعدد الزوجات وتفرض مثل تلك الطقوس والعبادات التى تحدثنى عنها؟!».. ورد علىَّ زميلى المصرى المسلم: «على فكرة، والمسلمين عندهم برضه مختلفين معانا فى بعض مفاهيمهم عن صحيح الدين.. هم لديهم إسلام ومسيحية تخصهم وحدهم..».
هى مسيحية واحدة، وهو إسلام واحد.. ولكنهم البشر فى كل الدنيا وعمايلهم، سواء من انتسبوا لدول العالم المتقدم عندما تلبسوا أردية التدين الظاهرية، فأعلن ممثلهم يهوديته بافتخار، ودعمهم المجنون للكيان الصهيونى بدعوى «حق الدولة فى الدفاع عن النفس»، ونسوا أو تناسوا أنهم يدعمون دولة احتلال لا حقوق لها على الأرض!.. أو على الطرف المقاوم الذى قدم نفسه للعالم بغطاء دينى ظاهرى بما أبعده عن مفهوم بسالة المقاومة؛ لأن جماعته الإخوانية لا تتحرك فى معاركها من فكرة الوطن والوطنية.. والضحايا من الجانبين بالآلاف بعد استدعاء أديان شوه رسائلها من غابت ضمائرهم، فسالت الدماء فى كل شوارع غزة!.
نقلا عن المصري اليوم