د. مصطفى الفقى
عندما أصدر (صبحى وحيده) كتابه الشهير عن (المسألة المصرية) تحاور الكثيرون حول تعبير (مسألة) باعتبارها تجميعًا إيجابيًا وسلبيًا لقضية واحدة فى تاريخ أوروبا منذ سقوط الأندلس، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (المسألة اليهودية) إلى أن جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية لكى تلعب المسألة اليهودية دورًا محسوسًا على مسرح الأحداث حتى انعكست أيضًا على سير المعارك الحربية منذ أن طالب (هرتزل) ورفاقه من غلاة المتشددين اليهود بوطن قومى فى فلسطين بعد أن مرت المسألة اليهودية بسلسلة من المحاولات مع البلاط العثمانى تارة، وإدارة نابليون تارة أخرى، وحكم محمد على تارة ثالثة لإيجاد قناة اختراق تصلح أساسًا نظريًا لتبنى مسألة الوطن القومى اليهودى فى فلسطين بعد أن تأرجح الاختيار بين مناطق مختلفة كان من ضمنها أرض أوغندا فى إفريقيا وسيناء بامتدادها المصرى عبر الصحراء، وعندما هُزمت ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى استقر فى ذهن الشعب الألمانى أن اليهود وراء تلك الهزيمة، وكانت تلك هى التربة الخصبة لنظرية العرق الآرى وميلاد الفكر النازى وظهور (الرايخ الثالث) الذى أدى إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية والتى خرج منها اليهود بصكٍ دولى وشهادة أوروبية أنهم ضحايا أفران الغاز وشهداء (الهولوكوست)، وقد تفاعل ذلك مع وعد بلفور الصادر فى ٢ نوفمبر ١٩١٧ من وزير خارجية بريطانيا بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين وبذلك ظهرت القضية الفلسطينية إلى الضوء، وبدأت ثورات الفلسطينيين ضد الوجود الصهيونى المدعوم من بريطانيا حتى بلغت ذروتها فى ثلاثينيات القرن الماضى، واحتدم الصراع، وبرزت زعامة المفتى أمين الحسينى الذى كان قريبًا من الدوائر الحاكمة فى برلين مدعومة من الدولة الألمانية فى صحوتها الجديدة، وشعر الأوروبيون ووراءهم الولايات المتحدة الأمريكية بل والقطاعات الشعبية من يهود شرق أوروبا أيضًا بأن الوقت قد حان إذ أصبحت المسألة اليهودية فى حاجة إلى من يدفع ثمنها حيث وقع الاختيار على المشرق العربى، خصوصًا بعد معاهدة (سايكس بيكو) وبداية الحديث عن خريطة جديدة للشرق الأدنى، واتفق الجميع فى صمت دفين على تصدير المسألة اليهودية إلى أرض فلسطين فى ظل حلم نظرى يتحدث عن دولة تجمع شتات اليهود من أنحاء العالم وتمتد من الفرات إلى النيل وبدأت سلسلة المواجهات الدامية تزداد إلى أن وقعت حرب ١٩٤٨ بين الجيوش العربية المتهالكة فى جانب والعصابات الصهيونية فى جانب آخر، وبلغ الأمر ذروته بصدور قرار التقسيم وإعلان قيام دولة إسرائيل التى بدأ فيها نزيف الدم الفلسطينى والعربى على امتداد ما يزيد على ٧٥ عامًا جرت فيها مواجهات عسكرية بين العرب وإسرائيل فى أعوام ١٩٥٦ و١٩٦٧ و١٩٧3 ناهيك عن المواجهات الدامية للانتفاضات الشعبية التى قاوم فيها الفلسطينيون ببسالة منقطعة النظير جيش الاحتلال المدعوم من الغرب، بدءًا من بريطانيا فى مرحلة الانتداب ثم فرنسا فى مرحلة المشروع النووى الإسرائيلى الذى كان شيمون بيريز أهم عرابيه حتى تلقفت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الصهيونية، لكى تكون بديلاً عن الوجود البريطانى الفرنسى فى المنطقة، وتتحول إلى قاعدة عسكرية للنفوذ الأمريكى وحلفائه، ولذلك فإننا لا نفصل الأحداث الأخيرة التى جرت فى الأرض الفلسطينية المحتلة منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وبين تاريخ الصراع، وهو ما يثبت بوضوح أن المسألة اليهودية تضخمت، وأصبحت مُعضلة دولية تهدد السلم والأمن فى العالم المعاصر، والغريب أن ذلك يحدث فى وقت قبلت فيه شعوب عربية مفهوم التعايش المشترك مع إسرائيل بل والتطبيع معها شريطة الالتزام بالشرعية الدولية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ولكن الذى حدث يبدو مختلفًا تمامًا إذ إن شهوة التوسع ونزعة الانتقام وسياسات العنصرية الاستيطانية مازالت تترك بصماتها المدمرة على الأرض الفلسطينية وشعبها الذى عانى كما لم يعان شعبٌ مثله على امتداد ثلاثة أرباع قرن من الزمان.

إن مصر القائدة فى الحروب، الرائدة فى السلام تدعو إلى منظور جديد للقضية الفلسطينية يتجاوز الأحداث الدامية، ويفتح ملفًا جديدًا للحوار الدولى حول هذه القضية المزمنة التى عاقت مسيرة العرب، ودمرت حياة الفلسطينيين، وحرمت اليهود من نعمة التعايش المشترك مع جيرانهم، ولا يخالجنى شك فى أن حل الدولتين هو النافذة الوحيدة لاختراق الواقع نحو مستقبل أفضل لهذه المنطقة من العالم بدلًا من الأشلاء المتناثرة، وحمامات الدم المفزعة، ومجازر الأطفال التى ستظل فى ذاكرة الأجيال الجديدة لعقود طويلة.. إن التسوية السلمية هى الحل الوحيد ولا حل غيره!
نقلا عن الأهـرام