نيفين مسعد
في رواية "أرض النفاق" ليوسف السباعي كان يوجد محل عطارة يبيع للناس الصفات الأخلاقية كالصراحة والشجاعة والنفاق…إلخ على هيئة منتجات طبيعية، وكان أحد الموظفين الغلابة يتردّد على هذا المحل ويروح يجرّب صنوفًا مختلفة من منتجات الأخلاق التي منها الحميد ومنها غير الحميد، وبالتالي دخل في عدد كبير من المغامرات، واكتشف في النهاية أن النفاق هو الصفة التي جعلت له قيمة في المجتمع.
• • •
تذكّرتُ هذه الرواية بدون مناسبة، فقط خطر لي أن نسبةً يعتّد بها من المصريين ربما تكون قد عرفت طريق محل العطارة إياه، لكنها بخلاف الموظف الغلبان الذي اشترى أشكالًا وألوانًا من العطارة/الأخلاق، فإنها أقبلَت على شراء نوع واحد فقط وبكميات كبيرة، وهذا النوع هو التكبّر أو جنون العظمة. فمنذ فترة ليست قصيرة وأنا ألاحظ أنه توجد حالة عامة من تضخّم الذات شائعة في المجتمع المصري على اختلاف طبقاته، حتى يندر أن تجد مواطنًا طبيعيًا لا يتعالى أو يختال. يدخل المريض على الطبيب الشهير فيتعامل معه بكبرياء شديدة، الردّ إن جاء يكون على مقاس السؤال بالضبط، فوارد جدًا ألا يحصل المريض على أي ردّ. يكاد لسان حال الطبيب الشهير يقول إنه يجب على المريض أن يحمد ربنا لأنه اقتطع جزءًا من وقته وقام بتوقيع الكشف عليه، وكأن ثروة هذا الطبيب تكوّنت عن غير طريق مرضاه، أو كأن الثلاثة (ع) الشهيرة أي العيادة والعربية والعروسة لم تأت من جيوب ناس تدبّر بالكاد الثمن الفلكي لكشف الطبيب الكبير. لا يُقدّر هذا الطبيب قلق مرضاه وكيف أن سلامهم النفسي وربما حياتهم نفسها تكون معلقّة على كلمة يجبر بها خاطرهم. ويراجع الطالب الجامعي أستاذه في معلومة سمعها منه في المحاضرة ويعتقد أنه ربما يكون قد قرأ ما يخالفها، فيثور الأستاذ ويرغي ويزبد، ولسان حاله يقول كيف لهذا الفسل أن يصحّح لي معلوماتي. ومع أن من الوارد جدًا أن يكون الطالب على حق وقد يكتشف الأستاذ ذلك بالفعل، إلا أن كِبره يأبى عليه تصحيح المعلومة. يجلس الموَكّل في مكتب المحامي المعروف وينتظر دوره بصبر جميل، حتى إذا تمّ المراد وحظي بلقاء المِتر وشرع في شرح الحكاية والرواية، طلب منه المِتر الاختصار لأن قائمة الانتظار طويلة أو لديه جلسة في المحكمة، ولسان حاله يقول إن موكّله لا يعرف مع مَن يتحدّث ولا أن مئات القضايا التي تشبه قضيته مرّت عليه على مدار تاريخه. أما الفنانون فحدّث ولا حرج، فمهما كانت دائرة الضوء المرسومة حول الطبيب أو الأستاذ الجامعي أو المحامي، فإنها لا يمكن أن تُقارَن بتلك الدائرة المحيطة بالفنان، وهذا أدعى لتضخم الشعور بالذات. حتى هذه اللحظة يبدو أن جنون العظمة حكر على المشاهير والأعلام، لكن في الواقع أن هذه الصفة انتشرَت حتى بين العوام والناس العادية، فسلوك الصنايعي ومنادي السيارات وموظف البنك وعامل المحل بل والطالب أيضًا لا يختلف كثيرًا، وهناك مقولة شهيرة فحواها: قل لي ماذا تزهو به أقل لك ماذا ينقصك، وبالتالي فإن الأشخاص المغمورين الذين يعانون من تجاهل المجتمع يجدون في تضخّم ذواتهم نوعًا من التعويض عن شعورهم بالنقص. ولدينا نموذج الأستاذ دسوقي وكيل المحامي الشهير، أو عادل إمام في مسرحية "أنا وهو وهي"، الذي كاد ينفجر من فرط الشعور بالكِبر ولا يتوقّف عن تكرار جملة "بلد بتاعة شهادات صحيح".
• • •
قبل أيام وقع في يدي بطريق الصدفة دواء معيّن، ومع إنني لستُ ممن يقرأون دائمًا النشرة الداخلية للأدوية التي يتناولونها، إلا إنني في تلك المرة قرّرت أن أكسر القاعدة. كانت الآثار الجانبية لهذا الدواء كثيرة وخطيرة إلى الحدّ الذي يدفع الواحد منّا للتساؤل عما إذا كان هذا الدواء سيشفي مرضًا واحدًا ويستحدث حفنة أخرى من الأمراض. على أي حال كان بين أكثر الآثار الجانبية غرابةً أثر معيّن لفت نظري وشدّ انتباهي، وهو احتمالات أن يصاب المريض بجنون العظمة! ن.. ن نعم جنون العظمة؟! لعب الشيطان الخبيث بعقلي وقلت لنفسي: أيكون عدد كبير من المصريين قد تعاطوا هذا الدواء ولحقتهم آثاره الجانبية ومنها جنون العظمة؟ احتمال وارد. وبفرض أن هذا حدث فهل التوقّف عن تناول الدواء يعيد الشخص إلى طبيعته الأولي فيعيش عيشة أهله ويتعامل مع الناس كما كان يعاملهم أم أن الإحساس بجنون العظمة له مغرياته التي تجعله لا يبارح الشخص حتى إن انتهت فترة العلاج؟ الحقيقة أن الموضوع كله على بعضه بدا لي بالغ الطرافة. وبعد أن تجاوزتُ دهشة البدايات قلت لنفسي لم لا أتعاطى هذا الدواء وأجرّب ذلك الشعور الذي يجعل الإنسان يتعامل مع الآخرين من علٍ لعلى أعرف بالضبط كنه التفاعلات التي تجري داخل هذا النوع من الأشخاص؟. تخيّلت نفسي بعد بضعة أيام من تناول هذا العقار وقد دخلتُ على أسرتي وأنفي في السماء، يكلموني فلا أردّ، أوجّه الأوامر لفلان وعلاّن، وأتأفّف من أي بادرة اعتراض، وأنتحي جانبًا أفكّر وأتأمل وأسمو. لا لا..لا أحبّ أبدًا هذه الشخصية ولا أرغب في تقمصها حتى لو كان ذلك على سبيل العلاج، وكما خلق الله هذا الدواء فإنه خلق غيره، والحقيقة أننا أحوج ما نكون لإحياء فضيلة التواضع التي نشأنا ووجدنا عليها أهلنا وأساتذتنا وأطباءنا وكل مَن حولنا مع أنه يقال دائمًا إن جيل زمان كان أفضل. نحتاج أن ننظر إلى نواقصنا ونشتغل عليها فالضعف الإنساني حقيقة ولا توجد قوة مطلقة. في ذهني مشهد لم أنسه قط رغم أنه حدث منذ أربعة وعشرين عامًا، مشهد بائع الليمون الذي انخرط في بكاء مرير عندما كان أبي الحبيب يغادرنا إلى حيث مثواه الأخير، فماذا كان بين أبي رجل القانون القدير وبائع الليمون الجوّال؟ العلم عند الله.
نقلا عن الشروق