عاطف بشاى
الأَحِبّة يرتحلون تباعًا.. عشرات من جيل الستينيات.. جيل المعارك والتحديات والتحولات.. الانتصارات والانكسارات.. الإحباط والهزيمة.. الأحلام المجهضة والآمال البازغة.. الإرادة العنيدة.. رحلوا وتركونا أسرى حزن مقيم.. ونهبًا لاجترار ذكريات رفقة العمر.. وسيرة عطرة محتشدة بسجايا وارفة لفقيدنا الكريم نفتقدها فى زماننا الضنين.. وقد كان رحيل الناقد السينمائى البديع، السيناريست القدير، الكاتب الصحفى الكبير، رؤوف توفيق، رحيلًا موحشًا، بعد غياب طويل تحت وطأة المرض، حيث آثر الصمت والوحدة، وتعفف عن أن يجأر بشكوى من تجاهل أو نسيان، وهو الذى كان يملأ مجالات الصحافة والفن ومهرجانات السينما وفعالياتها نشاطًا وإبداعًا خصبًا ومثمرًا.. وترك لنا ثمانية كتب من أجمل وأعمق ما كُتب فى النقد السينمائى على مر الأجيال.. وهى: السينما حينما تقول لا- سينما الحب- سينما الزمن الصعب- سينما المرأة- سينما الحقيقة- السينما مازالت تقول لا- سينما المشاعر الجميلة- سينما اليهود.
لم يكن «رؤوف توفيق» مجرد ناقد سينمائى من أولئك الصحفيين، الذين انتزعوا مساحات فى الصحف يعبرون فيها عن انطباعاتهم السريعة تجاه الأفلام السينمائية المعروضة فى دُور السينما، وتكتفى تلك الانطباعات بسرد ملخص للفيلم، ثم تحيات غامرة للبطلة الحسناء التى تفوقت على نفسها.. والبطل الخارق الموهبة الذى لا يُدانيه أحد.. فيما يمكن تسميتهم «كُتاب العلاقات العامة»، الذين تحتشد بهم صالات العروض الخاصة ودعوات الحفلات الصاخبة وأعياد ميلاد النجوم والنجمات الراقصة وموائدها العامرة بالأطايب.. أو آخرين يكتبون من باب المنفعة أو الاسترزاق.. بل لم يكن «رؤوف توفيق» مجرد ناقد دارس ومتخصص وصاحب تحليلات نقدية صائبة مميزة.. ولكنه كان أحد الرواد الكبار من الرعيل الثانى من النقاد العظام، الذين مثلوا عصرًا ذهبيًّا أسهم إسهامًا رائعًا فى مسار السينما المصرية، ولن يتكرروا، ومنهم «سمير فريد» و«سامى السلامونى» و«القليوبى» و«كمال رمزى» و«أمير العمرى»، وكان مفكرًا كبيرًا تحمل كتاباته النقدية رؤية عريضة وشاملة للعالم من حوله فى مجالات النشاط الإنسانى الفكرى والفنى والسياسى والفلسفى والتاريخى.. ومن ثَمَّ، فإن مقالاته الغزيرة وكتبه الوفيرة تمثل حالة ثقافية وتيارًا فنيًّا ودورًا إبداعيًّا يبشر باتجاهات ومدارس فنية جديدة.. وهو ينطلق فيها من الخاص إلى العام، ومن المحدود إلى اللا محدود.. ومن الإطار الواقعى الضيق إلى الرؤية الفلسفية عميقة الدلالة.. ومن العواطف الإنسانية التى تزخر بها السينما التراجيدية أو الكوميدية إلى الاشتباك مع الهَمّ العام.. وبالتالى، فإنه حينما يلقى الضوء على مضمون فيلم شاهده لا يكتفى بتحليل جوانبه الاجتماعية والنفسية، بل يتغلغل فى سبر أغواره وتفسير رموزه وكشف غموضه وتأمل أبعاده.. واستلهام أفكار تزيد المعنى غِنًى وشمولًا، فيُنحى النقد الرؤية الفنية للمبدع، ويُكسبها حياة جديدة وعمرًا أطول فى تاريخ السينما.
كنت مازلت فى بداية رحلتى فى عالم كتابة السيناريو، وكانت مفاجأة سعيدة، وأنا أتصفح مجلة «صباح الخير»، أن أقرأ مقالًا نقديًّا، خصنى فيه بإشادة جميلة ومديح أبهرنى تعليقًا على مسلسل «اللقاء الثانى»، الذى كتبت له السيناريو والحوار، بطولة محمود ياسين وبوسى وإخراج علية ياسين.. وكانت كلماته صاحبة الفضل الأول والتأثير الساطع على شحذ همتى وإنارة خطواتى وتدعيم ثقتى بذاتى وموهبتى.. وزهوى بأننى فى طريقى إلى أن أكون فنانًا يشيد به ناقد كبير، بل إنه أيضًا كاتب سيناريو بديع كتب العديد من السيناريوهات السينمائية والتلفزيونية.
ورصيده القليل من الأفلام يعكس مستوى فنيًّا وفكريًّا فريدًا وأخاذًا.. ولعل فيلمه الشهير «زوجة رجل مهم» من أهم أفلام السينما المصرية فى تاريخها كله.
توطدت علاقتى به، وصرت صديقًا له، أنعم بنفحاته الحانية ونقاء سريرته وصدق مقصده.. وسحر إنسانيته ونبل مشاعره الفياضة وروحه النقية.. وأتذكر أنه بعد أن عُين رئيسًا لتحرير مجلة صباح الخير، أن اتصلت به غاضبًا معترضًا على نقد جارح وهجاء ساخر حاد.. اعتبرته تطاولًا غير مهذب لى شنّه صحفى فى مقال له فى المجلة معلقًا على سيناريو مسلسل كتبته.. فاعتذر الأستاذ بتواضع جَمّ، ونصحنى محاولًا «رفع روحى المعنوية» وامتصاص غضبى.. بألّا أهتم بالهجاء، فقد أصبحت أحب تعبيره «رجلًا عامًّا»، وأمثالى دائمًا مُعرَّضون لمثل تلك التجاوزات.. وصرح لى بأن العدد القادم يحمل تغطية نقدية كبيرة لمسلسلى «لا»، إشارة إلى جودة السيناريو الذى كتبته له.
وداعًا الكاتب الكبير، الأيقونة الثمينة.. فسوف تظل بازغ التوهج رغم الغياب.. مشرق الوجود رغم العتمة، ستظل حاضرًا فى الزمن.. رابضًا فى الذاكرة.
نقلا عن المصرى اليوم