د. سامح فوزى
نحن إزاء مشهد غير مسبوق من اعتداء إسرائيل المتواصل على قطاع غزة، ليس فقط من حيث الدمار، وأعداد الضحايا والجرحى، وتدمير المنشآت، وتجاهل كافة المعايير الإنسانية الدولية، ولكن أيضا من حيث عدم وجود تصور لدى أطراف النزاع أنفسهم، وبالأخص إسرائيل، بشأن متى وكيف توقف العمليات العسكرية، والتى قد يتسع نطاقها، وتتحول إلى حرب شاملة فى الشرق الأوسط.

ورغم الأفق المعتم للمشهد المأساوى فى غزة، هناك عدد من الملامح الأولية التى يمكن التوقف أمامها. الملمح الأول: عودة القضية الفلسطينية إلى بؤرة الاهتمام العربي. فمنذ أحداث ما عُرف بالربيع العربى عام 2011، انكفأت الشعوب العربية على نفسها، وتراجع اهتمامها بالقضية الفلسطينية، ولاسيما أن الأنظمة العربية التى كانت تتبنى القضية، غابت عن المشهد، أو انشغلت بأزماتها الداخلية. وجاءت الاتفاقات الإبراهيمية بين بعض الدول العربية وإسرائيل إيذانا بدخول القضية الفلسطينية هامش الاهتمام العربى، فى الوقت الذى ظلت فيه مصر فى كل المحافل الدولية والإقليمية تشير إلى أهمية استئناف عملية السلام التى توقفت 2014، وإنشاء الدولة الفلسطينية، وتحذر من تفجر الأوضاع. الآن، ومع القصف الإسرائيلى الوحشى لقطاع غزة، والارتفاع الفلكى فى اعداد الضحايا والمصابين، استيقظ الشعور العربى مرة أخرى، وصارت القضية الفلسطينية على أجندة الحكومات، وهيمنت على الإعلام العربى، وعادت إلى بؤرة اهتمام المواطنين، خاصة الأجيال الشابة، بما لم يحدث على منذ سنوات، وفاضت المدن العربية بالمتظاهرين.

الملمح الثاني: لم تفلح محاولات تصفية القضية الفلسطينية طيلة السنوات الماضية،والتى بلغت ذروتها فى عهد الرئيس دونالد ترامب، الذى عمل على إجهاضها، وأعطى غطاء واسعا للحكومة الإسرائيلية فى التوسع الاستيطانى، وممارسة كافة ألوان التضييق والحصار على الشعب الفلسطينى. وفى ظل أحداث غزة حاليًا، أطلت مبادرات، وخرجت خطط ومشروعات من الأدراج، حول مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة، هناك من ينادى بحل الدولتين تمسكا بالشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، حتى وإن كانت الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وهناك من يطرح خطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، وقد واجهت مصر والأردن هذه المخططات بحزم ورفض تام. ويتداول الآن أن إسرائيل طالبت دول الاتحاد الأوروبى بممارسة الضغوط على مصر لقبول تهجير أهل غزة إلى سيناء، وقد أشار تقرير منشور فى الفايننشال تايمز منذ أيام إلى أن مصر أبدت رفضا كاملا للمخططات الإسرائيلية، وتشير مصادر فى الإعلام الغربى إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تدرسان وضع قوات دولية فى غزة عقب انتهاء العمليات العسكرية بها، أو تسليمها إلى السلطة الفلسطينية فى حالة تنفيذ إسرائيل هدفها المعلن وهو تصفية حماس، وهناك شكوك حول قدرتها على تحقيق ذلك من ناحية، ومدى جاهزية السلطة الفلسطينية التى دأبت إسرائيل على إضعافها من ناحية أخرى.

الملمح الثالث: ظهور حركة تقدمية عالمية فى الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى، تتمثل فى أصوات إعلامية وسياسية ومظاهرات بمئات الآلاف فى العواصم الغربية تطالب بإيقاف الحرب، والحرية للفلسطينيين، وظهور قطاعات من اليهود فى الولايات المتحدة يتظاهرون ضد الاعتداء الوحشى على غزة، ويقفون ضد التوجهات المتطرفة للحكومة الإسرائيلية، وهو أمر جعل الدول الأوروبية تتجه إلى التضييق على حرية الرأى والتعبير، مثل إلغاء التظاهرات، وتعقب الأكاديميين أصحاب الآراء المعارضة لإسرائيل، واستبعاد الأصوات النقدية من بعض وسائل الإعلام على نحو فج فى بعض الأحيان. ورغم أهمية تلك الأصوات، لا تزال السياسات الأمريكية والأوروبية حتى الآن تدعم العمليات العسكرية الوحشية فى قطاع غزة، وترفض الدول المؤيدة لإسرائيل أن يُصدر مجلس الأمن تنديدا بالعدوان على المدنيين، أو إقرار هدنة إنسانية أو وقف إطلاق النار، خلافا لنداءات وتحذيرات المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، التى تقف ضد الموقف الإسرائيلى، ويلعب أمينها العام جوتيريش دورًا بطوليًا فى هذا المجال.

الملمح الرابع: إن إسرائيل تبدو مختلفة فى هذه المواجهة مع حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية، فهى تدرك أنها سوف تتكبد قتلى وجرحى خاصة مع اتساع نطاق العمليات العسكرية، بالإضافة إلى عدد قتلاها المُقدر بنحو 1400 شخص، ولذلك أعلنت حالة الحرب، وتمضى فيها، تفاوض من أجل الرهائن، لكن ليست بنفس الحماس الذى كانت عليه فى مناسبات سابقة، وتواصل توغلها البرى، وهى تدرك أنها قد تحرر بعض الرهائن، وتخسر البعض الآخر، ولذلك لم تسع وراء التهدئة، ولم تطلبها، وليست مطروحة على أجندتها إلى الآن.
نقلا عن الأهرام