نيفين مسعد
جمعتني جلسةٌ لطيفةٌ مع عدد من الأصدقاء من جنسيات عربية مختلفة. أسمح لنفسي بأن أعتبرني في عداد أصدقائهم حتى وإن التقيتُ ببعضهم لأول مرة في هذه الجلسة، فهؤلاء الذين رأيتهم وجهًا لوجه في لقاء خريفي على شاطئ مدينة أصيلة المغربية الرائعة كنت أعرفهم جيدًا من خلال أعمالهم الأدبية، وظلّت سطورهم تنقل لي أفكارهم وتنسج معهم علاقة صداقة من طرف واحد هو طرفي أنا كقارئة، حتى إذا أتت هذه الفرصة للتلاقي بيني وبينهم أصبَحَت الطريق مفتوحة كي تسير علاقة الصداقة في اتجاهين رايح جاي. وهكذا بعد أن ساد الاطمئنان إلى أننا جميعًا على نفس الموجة انتقل الحديث من العام إلى الخاص، وعندما أقول على نفس الموجة فأنا لا أعني أننا كنّا نسخًا طبق الأصل، لا توجد نسخ بشرية متطابقة من الأساس، حتى التوائم توجد تفاصيل صغيرة مثل بصمة اليد ولمعة العين تصنع الاختلاف وتجعل لكل توأم شخصيته، ما أعنيه هو أننا اكتشفنا أن بيننا درجة عالية من التوافق إذ تصادف على سبيل المثال أن كلنا يحب البحر وأم كلثوم والفضّة الأمازيغية وأكل السمك والطاچين، وتصادف أيضًا أننا وجدنا بيننا عددًا لا بأس به من الأصدقاء المشتركين، وهكذا كان يمكن بين الحين والآخر أن يلتقط جرسون المطعم صيحة: طبعًا أعرفه/أعرفها ردًا على السؤال الذي تكرّر عدة مرات: هل تعرف أو تعرفين فلانةً أو علاّنا؟. لبنانيان ويمني وعراقية وفلسطيني ومصرية، مروحة عربية متعددة الثَنَيات والنقوش نحتاج إليها في هذه الأيام الصعبة لعلها تساعدنا على أن نتأكد أن هناك بعدا ما يجمعنا نحن العرب، فقد هزّ زلزال غزّة يقينيات كثيرة وباعد بيننا بدلًا من أن يوحدّنا. لا أدري بالضبط ما الذي دفع الحديث في هذا الاتجاه لكننا فجأة وجدنا أنفسنا نتورّط جميعًا فيه، أي في الحديث عن النصف الآخر وشريك أو شريكة العمر وتجارب الزواج ما استمّر منها وما لم يستمّر. وبين كل ما استمعتُ إليه من حكايات ممتعة خطفَت قلبي قصة قصيرة يكمن جمالها في بساطتها، فأحببتُ تفاصيلها مثلما أحببتُ من قبل روايات الأديبة صاحبة القصة وأسلوبها القريب إلى القلب حتى ليجعلك تشاور على بعض السطور قائلًا أنا هنا.
• • •
كانت شابةً جميلة بعينين لونهما خليط من الأخضر والبنّي وشعر متوسط الطول يميل إلى الشقرة كمثل سكان هذه المنطقة من وطننا العربي. حديثة التخرّج من الجامعة وتحمل كل تفاؤل وتمرد ومغامرة هذه المرحلة العُمرية المبكّرة، عندما قرّرَت أن تختبر موهبتها الأدبية لأول مرة. استجمَعَت شجاعتها وأرسلَت إحدى قصصها القصيرة إلى جريدة شهيرة اعتادت أن تنشر أسبوعيًا هذا النوع من الأعمال الأدبية على صفحتين متجاورتين، ومضت تنتظر الفرَج وتعّد الأيام. مرّ أسبوع والثاني والثالث ولم تقرأ صاحبتنا اسمها في الجريدة فأدركَت أنها كانت على حق حين كتمَت سرّها الصغير عمن حولها تحسبّا للإحراج، لكنها في الوقت نفسه لم تستطع أن تمنع غصةَ في حَلقها وهي تعتبر نفسها مشروع أديبة.. صحيح في بداية التجربة وأول الطريق لكن كل الأسماء اللامعة في عالم الأدب كانت في بداياتها مجرد مشاريع واعدة. إلى أن حدث غير المتوقّع وأتى يوم فَتَحَت فيه الجريدة دون اهتمام فوجدَت سطور قصتها القصيرة مذيّلة بالجملة المدهشة: قصة بقلم الكاتبة إ/ك، فكيف لكل الدنيا الآن أن تعرف بمفاجأتها السارة وتشاركها فرحتها؟ مفاجأة أنها صارت تحمل اللقب ونالت موهبتُها الاعتراف ودخلَت بقلمها بنّورة الأدب المسحورة. وقف إدراكها للحظة بكل إدهاشها وبهجتها وتحقّقها عند هذا الحدّ، وهو حدّ مهم فعلًا، لكن القدر كان يخبئ لها المزيد من المفاجآت. لم تكن تعرف صاحبتنا أن من هنا ستبدأ حياة جديدة عليها تمامًا، وأن هذه الحياة ستمتد على مدار أربعين عامًا فيهم ما فيهم من الحب والاعتياد والاختلاف والخصام والموّدة والفضفضة والأولاد والأحفاد وأشياء أخرى كثيرة، وأنها ستبهَت عليه ويبهَت عليها ويتمازجان. بينما هي تحكي كانت عيناها تلمعان بشدة فانغمس الأخضر في البني أكثر فأكثر.
• • •
في بدايات التجربة ذَهَبَت صاحبتنا إلى المجلة الشهيرة تسأل عن السبب في قسمة الصفحتين بينها وبين أديب آخر لا تعرفه على خلاف ما كان يجري عليه العمل سابقًا، فمع أن نشر قصتها كان خبرًا رائعًا بالنسبة لها، لكنها لم تحّب هذا الشعور الذي جعل لها نصف مساحة ونصف عدد السطور والكلمات وجعل منها نصف كاتبة. وفي اللحظة التي التقت فيها بهذا الغريب الذي خطف منها نصف فرحتها، انطلق كيوبيد من معقله ليوجّه مشاعرها وجهة بعيدة تمامًا عن الغضب. وقعتِ في الحب من أول نظرة يا فتاتنا الصغيرة واللي كان كان. حتى هنا نبدو كأننا أمام حكاية عادية، صحيح يوجد فيها بعض الإثارة والتشويق لكنها لا تخلو من عادية، أما غير العادي فهو القادم. منذ تكلّل هذا الحب الصاعق بالزواج جعلَت صاحبتنا من مفتاح الباب ترمومترًا تقيس به حرارة مشاعرها تجاه رفيق العمر، وكانت هذه الحرارة تختلف كما هو متوقّع من وقت لآخر، ومن ظرف للثاني. صوت المفتاح بعد سفر قصير للزوج غير صوته بعد يوم عمل عادي، وصوت المفتاح في ساعات الصفا غيره في ساعات الجفا، وصوت المفتاح وصاحبتنا تحمل بشارة أول حمل من زوجها غير صوته وليس لديها الجديد الذي تنبئه به. اختصر هذا الكالون وذاك المفتاح حياة الزوجين إلى درجة أن صاحبتنا يمكنها أن تؤرّخ لتطوَر علاقتها بشريك حياتها عبر دوران المفتاح في الكالون. تأخذ نفَسًا عميقًا وتقول إن أكثر ما ضايقها عندما بدأ سمعها يضعف ليس أنها "انطرشَت" على حد ما عبّرت به بصراحة مذهلة عن حالها، لكن أن ترمومتر الحب لم يعد يعمل، فما صار بمقدورها أن تسمع صوت المفتاح في الباب ولا صارت خفقات قلبها مربوطة به في سرعتها وحرارتها. تجلسُ على الأريكة وفي يدها كتاب، أو تسترخي في غرفتها نصف نائمة، أو تُعّد لنفسها فنجانًا من القهوة فإذا بها تُفاجأ بزوجها أمامها لا إحم ولا دَستور. لم تترك لنا أ/ك الفرصة لكي تجتاحنا مشاعر الأسى فلقد كانت ضحكتها الطيبة أسبق من تعاطفنا. عن چد أحببتك أكثر كثيرًا من ذي قبل يا صديقتي الرائعة.
نيفين مسعد
نقلا عن الشروق