أندرو اشعياء
وفجأة قطع حبل الصمت صراخ أم اندفعت مِن بيتها لتُخبر بأن فاجعة كبرى حدثت في بيتها.. يا له من صوت هرع ونحيب للنساء حين يمت أحد أولادهن! هذا ما حدث في أرض مصر في أحد احيائها حين خرجت الأم لتعلن وفاة ابنها الوحيد. إني أعتذر لهذه البداية الصعبة ولكنها حقيقة حدثت، أما الفاجعة الكبرى فكانت أن الخادمة في ذلك البيت هرعت لتعلن أيضًا عن وفاة ابنها! خرج أحد المقربين ليستدعى حكيم المنطقة (الطبيب) لأن الموقف حتمًا حالة تسمم بالبيت، وبينما هو سائر مُهروِلًا في طريقه لاحظ حركة غريبة بالقرية وصوت عويل شديد يتفاجأ به من هنا وهناك! سمع أحدهم يقترح استدعاء الحكيم ذاته، واخر يستدعي المنجم، واخر كاهن المعبد!
«واضح أن القرية كلها أصابها هذا التسمم اللعين!» هكذا حدّث نفسه، وماذا لو عاد واجدًا أن زوجته هي أيضًا ثكلى؟! ولكن لم يكن بمقدوره أن يستجمع فكره أكثر إذ أن صوت البكاء والعويل قد رن وأحدث صدى وتصدع بالعقول حتى هلت الأفكار والباقي أصابها العجز!
كان يومًا محزون على الجميع، لم يستطعْ أحد أن يدفع الموت عن فلذة كبده، والعجب حين ركز أحد الهرعة وجمع ذهنه وجد أن الضربة لم يكن سببها تسمم إذ أن القرية جمعاء فقدت البكر، كل ابكار القرية هم مَن افتقدهم الموت. لقد اشتركت الخادمة التي تطحن على الرحى مع سيدتها الثرية في حزن مشترك، القاضي مع الظالم والمظلوم، الحكيم مع المريض، ولم يميز الموت بين شخص وآخر « مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى كُرْسِيِّهِ إِلَى بِكْرِ الأَسِيرِ الَّذِي فِي السِّجْنِ» بل لم يعف الموت قصر فرعون نفسه! فسرعان ما ذاعت الأنباء بسرعة البرق بأن ولي العهد مات « فَقَامَ فِرْعَوْنُ لَيْلًا هُوَ وَكُلُّ عَبِيدِهِ وَجَمِيعُ الْمِصْرِيِّينَ. وَكَانَ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي مِصْرَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْتٌ لَيْسَ فِيهِ مَيْتٌ.» (سفر الخروج12: 30) كان حديث الكل «ألم تر "فلانه" التي فقدت زوجها بكر اخوته وابنها البكر واخيها البكر .. ألم تر أنت "فلان" الذي فقد ابنه وحيده البكر وحيده وحفيده البكر الرضيع، وأخيه الأكبر البكر ووالده لانه كان بكر اخوته؟!» حتى أن الموت أشاح يديه ونثر رائحته لتصل للبهائم التي فُقِدَ البكر منها أيضًا!
كانت تلك الليلة مريرة إلا أنها لا تعادل الإساءات التي لقيها إسرائيل على أيدي المصريين أجيالًا طويلة. لم تكن دموعهم سوى قناة صغيرة بالنسبة لأنهار الدموع التي انسكبت من أعين ذلك الشعب الذي اُجبِر على تحويل التراب إلى لبن دون أن ينال أجرًا سوى ضرب السياط.. ومهما كان صراخهم يمزق القلب فليس سوى همس بالنسبة لعويل الأمهات وتنهداتهن إذ كان الأطفال ينتزعن من أحضانهن!
الله لا يقسو على إنسان، ولا يتجبّر كما يظن البعض، إنما كانت هذه الضربات موجهة لآلهة المصريين وليس للمصريين «وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ. وَأَصْنَعُ أَحْكَامًا بِكُلِّ آلِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ. أَنَا الرَّبُّ.» (سفر الخروج12: 12) إن يد الرب عزيزة، وكلمته لها قوتها المُكتسبه مِن شخصه، ولم يتركها لنا لنُخيف بها أحد، إنما لتكون علامة وقوة ونبراسًا وعونًا. وكما أن يد الرب عزيزة هكذا لا يرضى بنحيب المظلومين والمكروبين والفاقدين لأعز ما لهم وسط الحروب والخصومات.. الإنسان دائمًا مخدوع من تفكّر قلبه واستعلاء ذهنه ظانًا أنه بهذا يسود ويكسب ويتسلط، أو أنه سيادة وقوة مُبرهنًا هذا بتجبّره وقسوته وعنفوانه! إنما أيها الجاهل إسأل التاريخ فيُخبرك فيُعلمك.. تتغير الأسماء والتاريخ واحد.