محمود العلايلي
ليس عليك أن تتقبل كل ما تفهمه، ولذلك علينا أن ننظر إلى أمر الصراع الفلسطينى الإسرائيلى نظرة واقعية وشديدة التجرد إذا أردنا أن نفهم طبيعة الصراع، ونَعِى إلى أين يأخذنا واقع الأمر على المستوى الإقليمى أو على المستوى الدولى، ولا تعنى الواقعية والتجرد أن تتخلى عن تعاطفك أو رغبتك في المساندة، ولكن معناه ألا يكون تحليلك قائمًا على العاطفة، ولا يحدد توجهك دوافع شوفينية خالية من المنطق لأن ما يجب أن يحكمك هو ما بدأت به مقالى: وهو أنك لست مجبرًا على أن تقبل كل ما تفهمه!.
لقد بدأ الصراع الصهيونى على أرض فلسطين منذ أكثر من مائة وعشرين عامًا، وطوال هذه الأعوام التي بدأت بالكيبودز وصاحب عملها العصابات المسلحة، وعلى جانب آخر شراء بعض الأراضى التي لم يتمكن الصهاينة أن يأخذوها بالقوة، ثم كانت هناك المرحلة المفصلية بين حرب العصابات بتطوير ذلك إلى جيش نظامى حارب ضد العرب وهزمهم إلى مرحلة إعلان الدولة في مايو 1948، وهنا حدث التحول الأهم في المراكز القانونية، حيث تحولت العصابات المسلحة والكيبودز المتناثرة إلى «دولة»، باعتراف ومباركة شطر مهم وقوى من العالم المتقدم الخارج لتوه من الحرب العالمية الثانية بكل ما لها من تداعيات وردود أفعال، ومنذ ذلك التاريخ ومنذ تغير المركز القانونى.
قدمت إسرائيل نفسها للعالم على أنها الدولة الديمقراطية التي تتحدث لغة السياسة المؤسَّسية التي يفهمها الغرب، وفى نفس الوقت دأبت على تضخيم الخطر العربى عليها حتى انتهزت خطأ عبدالناصر السياسى لتُلحق به وبسوريا أقسى هزيمة بدعوى الدفاع عن إسرائيل، في الوقت الذي استغلت على مر الأيام والسنين عمليات المقاومة الداخلية لتبرير بناء المستوطنات، وقمع المقاومة في الوقت نفسه في ردود أفعال أضعاف المقاومة ذاتها، في عملية سياسية مكررة بمنتهى السذاجة، على أثر تهديدات لو لم تكن موجودة لخلقتها، وعليه اتسعت رقعة الأرض التي وقفت عليها الدولة الإسرائيلية على المستوى الأفقى، وزاد تمكنها من الأراضى المحتلة بما أنجزته الدولة على المستوى الاقتصادى والعلمى في كل الأراضى المستولَى عليها على المستوى الرأسى، والأهم من هذا وذاك، وبعد أن تجاوزت مرحلة البحث عن الاعتراف بوجودها، فقد رسخت إسرائيل على مر السنوات لدى العالم أنها الدولة الديمقراطية المستقرة، بينما صدّرت في الوقت نفسه للعالم صورة الفلسطينيين المتناحرين من ناحية، والمتسببين في تكدير أمن إسرائيل من ناحية أخرى، حتى وإن كان لهم بعض الحق أحيانًا، إلا أنهم يتخذون طرقًا لا يقبلها الإسرائيليون، وبالتالى شطر العالم الموالى، لها دون الحاجة لتبرير أو شرح.
إذا كان وجود كيان إسرائيل القوى في تلك المنطقة كرادع مهم للهيمنة الروسية والتهديد الصينى المحتمل هو الدافع الأساسى للمساندة الغربية بشكل عام والأمريكية على وجه التحديد، فإن ذلك لم يكن ممكنًا لهذا الحد دون التأكيد على المركز القانونى المحترم الذي انتزعته إسرائيل من المجتمع الدولى، في الوقت الذي وضعت فيه الفلسطينيين في خانة المقاومة المجرمة، مما جعل موقفهم ضعيفًا أغلب الوقت، وصار لا يتجاوز التفاعل العاطفى إن حدث، وحتى من جانب روسيا أو الصين فإن المساندة في أغلب الأحيان لا تأتى إلا مكايدة للموقف الأمريكى الموالى لإسرائيل دائمًا.
إذا كان ما سبق هو محاولة للفهم، فهو ليس جرًّا لليأس، ولكنه دعوة إلى تغيير منطلقات التفكير، حيث إنه بالرجوع إلى المركز القانونى الإسرائيلى الذي اكتسبته على مر السنين مع ما يخسره الفلسطينيون، فمن الخطأ بمكان أن نظن أن العالم سينظر إلى الأحداث بأعيننا، ويتعامل مع إسرائيل على أنها جانية، بل إن السياسة الواقعية تحتم علينا أن نفهم أن العالم يتعامل مع الأمر على أن هناك دولة على جانب، تدعمها آلة إعلامية ساحقة وتساندها منظومة دبلوماسية جبارة، وتنظيمات مسلحة على جانب آخر، حتى وإن كان لها ظهير شعبى، في الوقت الذي لن يعود فيه العالم إلى مناقشة ما نوقش على مدى 75 عامًا حتى يتبين مَن معه الحق ومَن عليه، كما أن المجتمع الدولى لن يستدعى العنصر الإنسانى بين طرفين غير متساووين في المراكز القانونية، وخاصة أن العناصر الإنسانية فضفاضة بالقدر الذي يلائم الطرف الإسرائيلى دائمًا ولا ينطبق على الطرف الفلسطينى- من وجهة نظرهم- في كل الأحيان.
نقلا عن المصري اليوم