بمناسبة إنجيل الأحد الثاني من شهر بابه
القمص يوحنا نصيف
هذه المعجزة الفريدة حدثت في بداية خدمة السيّد المسيح على الأرض، وانفرد بذكرها القديس لوقا في إنجيله (لو5: 1-11).. وهي مملوءة بالمعاني الجميلة.. لنتناول في هذا المقال بعضًا منها:
+ تبدأ الأحداث بمشهد السيّد المسيح والجموع مزدحمة حوله ليسمعوا كلمة الله.. وكان هو واقفًا على شاطئ بحر الجليل يقدّم إليهم الكلمة الإلهية، ثم بعد ذلك دخل سفينة بطرس وجلس فيها، وصار يُعَلّم الجموع من السفينة.. هنا يا تُرى ماذا يقدّم السيّد المسيح للجموع..؟ بالتأكيد هو يقدّم لهم عطيّة ثمينة، وليس شيئًا تافهًا.. هو يقدّم لهم احتياجهم الحقيقي.. فالاحتياج الرئيسي للإنسان في هذه الدنيا هو كلمة الله المُحيية، وهذا ما يقدّمه لنا الرب من خلال الكنيسة؛ هذه السفينة المُستقرّة في سلام فوق مياة بحر العالم..!
+ الله لا يترك نفسه مديونًا لأي أحد، بل مَن يقدّم له شيئًا يُكافئه ببركات تفوق الوصف.. فنرى بطرس وقد قدّم سفينته للسيّد المسيح لكي يستعملها في تعليم الجموع، وضحّى أيضًا بجزء من وقت راحته، لأنّ الصيّادين يصطادون بالليل ويرتاحون في النهار.. ولكن السيّد المسيح ردّ له تضحيته أضعافًا مضاعفة، ببركة مُعجزيّة، وقف أمامها بطرس عاجزًا عن الشُكر، شاعرًا بعدم استحقاقه لها.. هكذا يتعامل الله مع كل مَن يُضحّي ولو بأشياء بسيطة من أجله، فإنّه يفيض عليه ببركات روحيّة وزمنيّة أيضًا..!
+ من الواضح أنّ الكلمات التي سمعها بطرس في تعاليم السيّد المسيح قد أثّرَت فيه وشعر بقوّتها في داخله، حتّى أنّه عندما طلب منه الرب طلبًا يبدو غير منطقي، أطاع قائلاً: "على كلمتك ألقي الشبكة".. فبالرغم أنّ الوقت المناسب للصيد قد فات، وأنّه لا يوجَد جهد لمواصلة الصيّد في النهار بعد تعب الليل، وأنّ المناطق العميقة لا ينفع فيه استعمال الشباك بالنهار إذ تهرب الأسماك بعيدًا جدًّا عن مستوى سطح الماء.. إلاّ أنّ بطرس أطاع بإيمان، وكانت النتيجة مُذهلة.. الشباك تتخرّق من كثرة السمك.. وسفينتان امتلأتا حتّى كادتا تغرقان.. هذه هي ثمار الإيمان وطاعة الوصيّة بتسليم كامل لله..
+ الإنسان الصادق مع نفسه عندما يرى عمل الله المُعجزي في حياته، يمتلئ خجلاً من محبة الله، ويدخله شعور قوي بعدم الاستحقاق، فيتحرّك قلبه للتوبة.. وهذا ما حدث مع بطرس عندما رأى قوّة المعجزة "خَرّ عند ركبتي يسوع قائلاً اخرج من سفينتي يارب لأنّي رجُل خاطئ".. وترجمة ذلك في حياتنا أنّه عندما يبارك الله أعمالنا، أو يُنجح طريقنا، أو يقف معنا في موقف بقوّة وبشكل واضح جدًّا، يلزمنا أنّ نخرّ تحت قدميه ونشكره لأنّه يتمجّد معنا ونحن غير مستحقين، ومحبّته تغمرنا على الرغم من نقص وضعف محبّتنا.. وهذا يحرّك مشاعر التوبة في داخلنا، فنحن مديونون لهن بالكثير، ويجب أنّ نكون أمناء له كما هو أمين معنا..!
+ ختام القصّة جاء بشكل غريب.. فالمفروض أنّ هذا الصيد الوفير هو ثروة كبيرة هبطت على سمعان بطرس وشركائه الصيّادين، ولعلّه لم يكُن يحلم يومًا بمثل هذا الصيد الهائل.. فهذه كانت بمثابة "خبطة العُمر" بالنسبة له.. الطبيعي أن يشكر الرب ثمّ يبدأ في التفكير ماذا سيفعل بثمن هذا السمك؟ هل سيجدِّد سُفن الصيد؟ أم يشتري قوارب وشِباكًا جديدة؟ أم سيقوم بتشغيل بعض الصيادين تحت يده ليزداد المحصول ويرتاح هو..؟! ولكن العجيب أنّ بطرس والذين معه لم يصنعوا شيئًا من هذا، بل قاموا بدلاً من ذلك بـ "خطوة العُمر" إذ تركوا كل شيء وتبعوا المسيح، حتّى دون أن يستفيدوا ببيع السمك..!!
لماذا يفعلون مثل هذا التصرُّف العجيب..؟! هل الله يعطينا العطايا الماديّة لكي نهملها، ونتركها دون أن نستفيد منها..؟!
يبدو لي أنّ الإجابة على هذا السؤال مُتَعَلِّقة بما كان هؤلاء التلاميذ يسمعونه من تعاليم روحيّة للسيّد المسيح قبل المعجزة مباشرةً.. فهو القائل: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلّها تُزاد لكم" (مت6: 33).. وقد أكّد المسيح صِدق وعده "هذه كلّها تُزاد لكم" عندما أجرى هذه المعجزة، فأكّد لهم مُقدَّمًا بالمعجزة كيف أن كلّ الأمور الماديّة ليست مُشكِلة بالنسبة له أن يعطيها لهم بكلّ سخاء.. ولكنّه يطلب أولاً أن نهتمّ بخلاص نفوسنا.. نهتمّ بملكوت الله، ونعمل معه في صيد الناس وربحهم داخل شبكة الملكوت.. أمّا احتياجاتنا الماديّة فهو قادر أن يوفّرها لنا، وبسخاء يفوق الخيال.. فعندما رأى التلاميذُ محبّة المسيح وصِدق وعودِهِ، تركوا كلّ شيءٍ وتبعوه فورًا بلا تردّد، ولم يندموا يومًا على هذا القرار..!!
القمص يوحنا نصيف