محمد أبو الغار
هذا كتاب هام صدر بالفرنسية في باريس وكتبه مؤلفان مصريان هما بهجت النادى وعادل رفعت، وأطلق عليهما لقب «التوأم» لأنهما قدما أعمالا هامة سويًا عبر عشرات السنوات باسم مستعار هو «محمود حسين». هاجر المؤلفان إلى فرنسا عام 1966 بعد أن تم حبسهما 5 سنوات أيام عبدالناصر بتهمة الانتماء إلى اليسار، ومنحهما الرئيس ميتران الجنسية الفرنسية ضمن عشرات من المثقفين والكتاب الهاربين من معتقلات بلادهم الأوتوقراطية. تم إسناد رئاسة تحرير مجلة اليونسكو الثقافية العريقة لهما. المؤلفان أصبحا من أهم المثقفين والكتاب الفرنسيين ولهما صلات وثيقة بكبار الكتاب الفرنسيين.
قام بترجمة الكتاب د. محمد مدكور ونشرته دار الشروق حديثًا، وكتب مقدمة قصيرة وعميقة ومؤثرة، واختاره المؤلفان بعد أن قرأوا عملًا مترجمًا له واشتركا معه في إعادة صياغة بعض الفقرات المترجمة. يقول المترجم إن ما قرأه كان أعمق بكثير من أن يكون سردًا تاريخيًا بل يقدم صورة لمصر بأبعادها الاقتصادية والسياسية والدينية والنفسية، والكتاب يتحدث باسم المحكومين الذين نما وعيهم واكتمل نضوجه.
يعتبر المؤلفان أن مصر قبل عام 1798 كانت تعتبر أن كل حدث هو إرادة إلهية، وبالتدريج بدأ الاعتراف بأن هناك أمورا دنيوية في يد الإنسان وبدأ طموح المحكومين في تغيير العلاقة بينهم وبين الحكام. كان كل المصريين أيام الدول العثمانية يعتقدون أن أي عمل إنسانى نابع من الإرادة الإلهية، ولا توجد إرادة شخصية. وأن المواطن لم يكن على وعى بأنه مصرى، وقبل ظهور القومية المصرية في الوجدان المصرى كانت تحكمه هوية إسلامية وهوية محلية مرتبطة بالقرية أو المدينة أو الجغرافيا أو الحرفة. تكونت الهوية المصرية عبر سنوات طويلة بدأت برفاعة الطهطاوى الذي كان أول من ذكر الكيان المصرى المختلف عن الكيان الإسلامى، وتجسد أكثر أثناء ثورة عرابى عام 1882 وكان إيمان المواطن راسخًا بأن الدولة التي تقوم على الشريعة تفترض طاعة المحكوم للحاكم وحرص الحاكم على الصالح العام. وتطور مفهوم القومية المصرية وأصبح ناضجًا بنهاية ثورة 1919.
يقدم الكتاب صورة لمجتمع فيه انفصام تام بين حكام أجانب وشعب منفصل عنهم ومنغلق على نفسه، ويبدأ التغيير حين ينفصل بعض الأفراد ويشعرون بانتمائهم لطبقات حديثة ذات مصالح متميزة ويطالبون بعلاقة مختلفة مع الحكام. ويركز فصل آخر على أن الحكام والمحكومين كانوا يؤمنون تمامًا بأن الله يتحكم في كل الأمور الدنيوية، وأن السلطان يحكم باسم الله وأن على الرعايا أن يطيعوه ولم تتزعزع هذه العقيدة إلا بالإيمان باستقلال الشؤون الدنيوية عن الإرادة الإلهية، وتم وضع قواعد بشرية لتنظيم الأمور الدنيوية.
في فترات متعددة من تاريخ مصر كانت تحدث معارك طاحنة بين الفرق المملوكية المسلحة، وأدى ذلك إلى تدمير مدن وأحياء كاملة وتدهور مأساوى في الظروف المعيشية للشعب ونقص الغذاء ومجاعات وأوبئة، في هذه الظروف اعتبر العوام أن الحكام كفار وانتفضوا لإعادة الأمور إلى نصابها التي يرتضيها الله وكان يقودهم علماء الدين لتحقيق الاستقرار.
تطورت الأمور بأن أصبح على رأس الدولة وال تركى ومعه ميليشيات مسلحة أجنبية (المماليك)، وتكونت طبقة صغيرة من كبار التجار والأغنياء الذين يعيشون في رفاهية وطبقة أخرى من الحرفيين الذين يعيشون حياة بسيطة معقولة. وكانت هناك طبقة منفصلة ولها مكانة خاصة وهى رجال الدين، ثم هناك الأغلبية من الشعب بدون عمل ويعيشون على الفتات.
يتحدث الكتاب عن تطور العلاقة بين الحكام والمحكومين حتى عام 2011 وقد اخترت أن ألخص الفصل الخاص بالحداثة لأن هذا التعبير يذكر كثيرًا على أنه الطريقة التي تقدمت بها الأمم، وهناك كتابات وأبحاث كثيرة تؤكد أن تطبيق اليهود للحداثة هو الذي أدى إلى التطور الهائل في دولة إسرائيل. يقول الكتاب إن الحداثة هي التغيير والتجديد وليس التقليد، واستخدام حلول متجددة لأزمات المجتمع الذي يشجع روح الابتكار، ويشمل ثورة اجتماعية أدت إلى ثورة اقتصادية في الريف، ونهاية للإقطاع والسخرة، ويصبح الإنسان صاحب قرار ومسؤولا عن نفسه وصولًا إلى النمط الرأسمالى الذي ينظم علاقة حرة بين العامل وصاحب رأس المال، وانتشرت المصانع، بعد الاعتماد على الآلة وعلى الطاقة بدلًا من البشر وذلك عظم الإنتاج. وصاحب ذلك ثورة روحية وذهنية تم فيها فصل الدين عن الدنيا، وأصبح العلم هو الذي يعطى للعقل البشرى مفتاحًا لفك كل ألغاز الطبيعة وقوانينها. قبل الحداثة كان الفن مرتبطًا بالدين وبتصوير السيد المسيح وشهداء الكنيسة في أوروبا، وفى منطقتنا كان تصوير الإنسان غير مرغوب فيه؛ فكان الفن عبارة عن رسم الحروف وأشكالها والمشربيات وأنواعها، وبدخول الحداثة حدثت ثورة فنية وأدبية وبدأ رسم الطبيعة وجسم الإنسان وتحليل الضمير والنفس البشرية في الأعمال الأدبية والشعرية والمسرحية. ثم ظهرت الثورة الحقوقية كجزء أساسى من الحداثة؛ وهى أن الإنسان يتمتع بالحرية وهى حق غير قابل للمساس، وكذلك المساواة بين البشر والحق في الملكية والبحث عن السعادة، وقانون «الهابياس كوربوس» أي قانون منع الاعتقال التعسفى. وتحضرنى حادثة فكاهية لكنها تدعو إلى البكاء؛ أنه حين اعتقل د. لويس عوض في العصر الناصرى وأرسل إلى الجبل لكسر الأحجار وقف ينادى بأعلى صوته «الهابياس كوربوس» وبالطبع ضباط وجنود المعتقل لم يفهموا شيئًا واعتقدوا أن لويس عوض قد أصابه الجنون؛ بينما هو مثقف كبير يطالب بحق من حقوق الإنسان.
من الحداثة تحويل السيادة المطلقة من الملوك إلى عروش دستورية، يسلم فيها الحكم إلى هيئات منتخبة أو أنظمة جمهورية. وملخص الحداثة هو فصل الحياة الدنيا عن هيمنة الحياة الآخرة، والمساواة بين البشر، واحترام حقوقهم وإطلاق المواهب في العلم والفن والأدب بدون حدود. وأكدت أن الإنسان مخير في قراراته.
الكتاب يغطى فترة طويلة من التاريخ حتى عام 2011، ويستحق القراءة بروية لأهميته الكبرى.
قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك
نقلا عن المصرى اليوم