إسحق إبراهيم
مع كل استحقاق انتخابي، تلعب المؤسسات الدينية، مسيحية وإسلامية، أدوارًا متفاوتة في حشد المواطنين للمشاركة والتصويت؛ للرئيس عبد الفتاح السيسي في سباقات الرئاسة، ولقوائم الأجهزة ومرشحيها في انتخابات البرلمان، غير عابئة بالانتقادات الموجهة إليها، وهي تعيد تكرار خطايا تيارات الإسلام السياسي، بالإضافة إلى ارتكاب مخالفة يُجرّمها القانون.
تعتمد هذه المؤسسات على عدم تحرك الهيئة الوطنية للانتخابات، وتجاهلها هذه الممارسات، على الرغم من المحظورات التي تضعها؛ وفي مقدمتها تهديد الوحدة الوطنية، واستخدام الشعارات الدينية والرموز التي تدعو للتمييز بين المواطنين، بسبب الجنس أو اللغة أو العقيدة، أو تحض على الكراهية، بالإضافة إلى حظر استخدام دور العبادة في الدعاية السياسية.
ظهرت هذه الدعاية، بوضوح لا تخطئه عين، خلال انتخابات الرئاسة الماضية عام 2018، واتخذت أشكالًا متعددة بداية من بيانات تأييد السيسي، ثم مشاركة قيادات هذه المؤسسات في المؤتمرات الانتخابية والفاعليات السياسية، وانتهاءً بالحشد والخروج في مجموعات خلال أيام التصويت.
على سبيل المثال، قاد الأنبا إرميا الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، والقريب من مؤسسات الحكم والأزهر، حملات دعوة المسيحيين في الخارج لانتخاب الرئيس، بينما تبارى الأساقفة وكبار رجال الدين في مدح ما اعتبروه إنجازات النظام الحاكم.
ووصل الأمر بالأنبا إرميا أنه وصف من يرفض المشاركة في الانتخابات بـ"الجندي الذي يهرب من المعركة". وفي نفس السياق، شارك عدد من المشايخ والقيادات الدينية الإسلامية في مؤتمرات " كلنا معاك من أجل مصر" التي شهدتها عدد من محافظات الجمهورية.
وفي الانتخابات الحالية، استبق القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية، الإعلان رسميًا عن مواعيد إجرائها بالإعلان عن أهمية ترشح الرئيس السيسي لفترة رئاسية جديدة، لأنه يضمن إرساء قواعد العدالة والحماية الاجتماعية.
أما الأنبا بيمن، مطران قوص ونقادة ومقرر لجنة العلاقات العامة التابع للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وفي سابقة هي الأولى، أرسل خطابات لكافة إيبارشيات الكنيسة لتأكيد أهمية تنفيذ توجيهات البابا تواضروس، بالمشاركة في احتفالات مرور 50 عامًا على انتصارات أكتوبر، وهي الاحتفالات التي نُظِّمت لدعم ترشح الرئيس السيسي، وعُرضَت مشاهد منها في ختام مؤتمر "حكاية وطن"، الذي أعلن الرئيس السيسي في ختامه، وبحضور شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، عزمه الترشح مجددًا في الانتخابات الرئاسية.
بطبيعة الحال، لا يعترف رجال الدين أنهم بذلك يمارسون نوعًا من السياسة أو خلطًا بينها وبين الدين، الممارسة التي طالما رفضوها عندما كانت تيارات الإسلام السياسي تقوم بها قبل ثورة يناير، ثم خلال تجربتهم المريرة في الحكم.
عبارة "الدور الوطني" فقدت كثيرًا من معناها، وأصبحت مرادفًا لدعم الحكومة وسياساتها
وفي محاولاتهم للإفلات من النقد والاتهام بازدواجية المعايير، يقدم رجال الدين اليوم عدة مبررات لما يقومون به.
ضرورات الدور الوطني
الحجة الأولى التي يستند إليها رجال الدين أنَّ هناك فرقًا بين الممارسة والمنافسة السياسية من جانب، والتوعية السياسية من جانب آخر. والأخيرة لا تعني الانخراط في العملية السياسة، بل هي واجب وطني يقع على عاتق مؤسسات عديدة منها الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني، وقيام المؤسسات الدينية به اليوم، يأتي امتدادًا لأدوارها التاريخية في دعوة أبنائها للمشاركة العامة والاندماج فى المجتمع والتصويت في الانتخابات.
ورغم وجاهة هذا الطرح نظريًا فإنه يخالف واقع الحال. لا غبار طبعًا على هذا الدور، بغض النظر عن الحاجة إليه وأهميته في الوقت الحالي، إذا انتهى عند الدعوة العامة للمشاركة في الاستحقاقات العامة، من باب إعداد مواطن صالح يدرك حقوقه وواجباته.
لكنَّ التجارب السابقة تثبت أنَّ هذا الدور لا يتوقف هنا، بل يمتد إلى دعم وتأييد مرشح واحد بعينه، تتاح لأنصاره الفرص لعرض أسباب تأييدهم له والحشد له، دون أن تتاح لغيرهم من أنصار المرشحين الآخرين، حتى من باب معرفة رؤاهم والالتقاء بهم وبناء العلاقات العامة.
هذه الممارسات التي تُخِلُّ في المجمل بالمساواة وتكافؤ الفرص تعدُّ بمثابة الانضمام للحملة الانتخابية لهذا المرشح، كما أن عبارة "الدور الوطني" فقدت كثيرًا من معناها ومدلولاتها بعد الإفراط في استخدمها، وأصبحت تستخدم كمرادف لدعم الحكومة وسياساتها، بغض النظر عن تداعيات ذلك من ترسيخ لحكم غير ديمقراطي، ومصادرة حقوق المواطنين في حرية الرأي والتعبير والمشاركة في الشأن العام.
رأي الفرد ورأي المؤسسة
ثاني الحجج التي تقال في الرد على الانتقادات بشأن مشاركة المؤسسة الدينية في الانتخابات، أنها غير مسؤولة عن مشاركة رجال الدين التابعين لها في المؤتمرات الانتخابية وفي الدعاية لمرشح بعينه، فهم مواطنون لهم حرية الرأي والتعبير، ومن حقهم الإعلان عن توجهاتهم، ويُحسبون على أنفسهم ولا يمثلون المؤسسة.
هذا الرأي أشبه بحقٍّ يراد به باطل؛ فمن الصعوبة بمكان فصل آراء القيادات الدينية الشخصية عن رأي المؤسسة بكاملها، خصوصًا أن هذا الرأي لم يأتِ في جلسة ودية أو مغلقة، بل من خلال أدوات النشر واسعة الانتشار، وفي سياق استحقاق عام.
كما لا يمكن تقييم هذا الرأي بعيدًا عن رسالته واستخدامه وتداعياته؛ فرجال الدين يدعون إلى المشاركة في المؤتمرات الدعائية بحكم مناصبهم وشخوصهم القيادية، وحديثهم رسائل لمخاطبة عموم الناس ودعوتهم لمشاركتهم نفس التوجه. فحديث الأنبا إرميا أو القس أندريه وتأثيرهما ليس مثل حديث وتأثير آحاد الناس، خصوصًا في ظل مكانة رجل الدين في مصر وأدوار المؤسسة الدينية والخدمات الاجتماعية التي تقدمها.
هل الرفض ممكن؟
أحد المبررات المهمة وذات الاعتبار التي تقال، إن المؤسسة الدينية لم تبادر بالخطوة الأولى، بل طُلب منها، وأحيانًا يُقال همسًا إن هناك خيارات محددة فُرضت ولا سبيل لرفضها. وهذا أمر له علاقة برؤية الدولة لمواطنيها المسيحيين؛ هل هم مواطنون منخرطون في مؤسسات مدنية يتم الوصول إليهم من خلالها، أم رعايا كنيسة يُطلب منها حشدهم في الاستحقاقات العامة وقت الضرورة.
على رجال الدين إدراك خطورة القرب الشديد من نار السياسة التي قد تحرق أصابعهم
هذا السمت للعلاقة ليس وليدة المرحلة الحالية وإنما متجذِّر تاريخيًا، خصوصًا منذ عام 1952، والتغييرات الجذرية على نظام الحكم والحياة السياسة في مصر. جسَّد قرار عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي بمشاركة كل من شيخ الأزهر أحمد الطيب، والبابا تواضروس في 3 يوليو/تموز 2013، إحدى هذه اللحظات التي لم يكن أمام الكنيسة، أو حتى الأزهر، خيار الرفض أو التأخر عن المشاركة، لكن ليس هذا موضوعنا في هذا المقال.
هل تملك الكنيسة رفض طلبات مؤسسات الدولة بالإعلان عن التأييد والمشاركة في الدعاية سواء في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية؟! سؤال صعب، ولا توجد إجابة "نموذجية" عنه. ما أعتقده أن الكنيسة كمؤسسة دينية لديها خيارات متنوعة لمعالجة هذا الأمر، حسب نوع الانتخابات وسياقها وزمانها.
ولكن في الأساس ينبغي أن تسعى إلى عدم الانخراط في تأييد مرشح أو تيار بعينه، وعدم توفير منبر لأحد وحرمان الآخرين منه، وعدم الحديث عن أعضائها باعتبارهم كتلة واحدة مصمتة، فهم متنوعون في انتماءاتهم السياسية والحزبية، والحرص كل الحرص على إظهار الاحترام والتقدير للجميع.
لا تزال العملية الانتخابية في بدايتها، حيث أعلن ستة مرشحين محتملين عزمهم خوض المنافسة، أغلبهم استوفى متطلبات الترشح، ويجاهد مرشحان لاستكمال التوكيلات الشعبية اللازمة. بعدها ستبدأ مرحلة جديدة ساخنة من الدعاية وحشد الأنصار وتنظيم المؤتمرات.
على المؤسسات الدينية وبالأخص الكنيسة عدم تكرار الأخطاء السابقة، والبعد عن دعم مرشح بعينه، أن تكون مؤسسة تستوعب الجميع، وتحترم حق كل مواطن في الترشح وحق كل ناخب في الاختيار. وإذا لم تكن المؤسسة الدينية قادرة على النقد الواضح لسياسات الدولة التي فشلت في علاج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وزادتها تفاقمًا، فليس عليها في نفس الوقت أن تبرر هذه السياسات أو تكون صوتًا للباطل. كما على رجال الدين إدراك خطورة القرب الشديد من نار السياسة التي قد تحرق أصابعهم.
نقلا عن المنصة