مدحت بشاي
فى الكثير من الأحيان، يدرك المثقف الحقيقى أن اختياراته الأخلاقية خلال أزمنة الصراعات الاجتماعية أو الفكرية قد تعرّضه للانتقاد السلبى من جانب مخالفيه والدخول معهم فى معارك عندما يجنحون للمواجهات غير النزيهة، لكن الثمن الذى يدفعه المثقف وصاحب الدور التنويرى والإصلاحى فى أى مجتمع ينتسب إليه خلال رحلة النمو والتغيير، وعلى المثقف أن يتذكر رسالته الأسمى على أرض وطنه، ويكفيه أن ينجح فى قيادة عمليات تنمية الوعى العام التى إذا بدأت بمهارة ووطنية فلن تتوقف بإذن الله عن الدوران.
وعليه، أرى أن المثقف لديه رسالة ـ خارج أطر المناسبات والمواسم السياسية والاجتماعية التى تزخر بها دهاليز ودروب السياسة المتقلبة كأجواء الخماسين - تتمثل فى تبنى مشاريع إنسانية وفكرية وتنويرية، والمفروض أنه يمتلك رؤية تتجدد ملامحها وتتماهى مع قضايا مجتمعه على أرض الواقع بصياغات إبداعية لخدمة أهله وناسه، مستشرفًا المستقبل، طامحًا إلى أن تعكس إنجازاته الإبداعية المتجددة كشف حقيقة وشكل الواقع ومشكلاته، متجهًا نحو المستقبل، مبشرًا بحلم الإنسان فى العدل والسعادة وامتلاك حقوق «المواطنة الكاملة»، والإصرار على نبذ ومجابهة مَن يدعمون شيوع الروح الانهزامية البليدة ومَن يدفعون فى اتجاه تنمية حالة فقدان الثقة التى عانت منها الجماهير فى مراحل الانكسار والتردى الحضارى.
وأتذكر فى هذا السياق مسيرة ودور المثقف والفنان والكاتب الصحفى المبدع والباحث الأثرى الوطنى النبيل كمال الملاخ، ونحن نتابع هذه الأيام الدورة الحالية لمهرجان الإسكندرية السينمائى الذى قام بتأسيسه، كما قام كذلك بتأسيس مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، واللذين يتوالى تنظيم دوراتهما بنجاح حتى الآن..
ونحن نحتفى هذه الأيام بحلول شهر أكتوبر وبذكرى انتصاراته المجيدة.. وبالمناسبة هو الشهر الذى شهد ميلاد «الملاخ»، وأيضًا ذكرى رحيله فى نهاية الشهر عن دنيانا، بعد اجتيازه رحلة عطاء حافلة حقق عبر حقبها المتوالية العديد من الإنجازات المشهود بأهميتها الثقافية والتنويرية والفكرية، وواجه الكثير من التحديات التى كلفته الدخول فى معارك خاض حوماتها بنجاح رائع.
فى بداية عمله مدرسًا بكلية الفنون الجميلة مارس التدريس بحب وسعادة، حتى حدث تعيين عميد جديد للكلية، ويشير الكاتب الكبير «فايز فرح» فى أكثر من موقع ومقال إلى كم المشاكل التى عايشها «الملاخ» فى فترة تعامله مع الرئيس الجديد.. حتى حدوث مشادة كبيرة بينهما، وكان قرار العميد بإيقافه عن العمل.. وبينما «الملاخ» فى هذه الحالة العصبية، تأتيه مكالمة تليفونية من الدكتور طه حسين المستشار الفنى لوزارة المعارف وقتذاك يطلب مقابلته، ويحكى «الملاخ» فى كتابه (قاهر الظلام) حكاية هذه المقابلة.
وكان الدكتور طه حسين قد علم بخلاف «الملاخ» مع العميد الجديد، وعلى الرغم من أن موقف «الملاخ» كان سليمًا ولم يصدر منه ما يجعل العميد يتخذ قراره بوقفه عن العمل، إلا أن د. طه نصح «الملاخ» بالابتعاد عن الكلية مدة ثلاثة أشهر حتى يتوقف العميد عن ظلمه له، وقال د. طه حسين لـ«الملاخ»: أعرف أنك شاب موهوب، بل نابغة، ومع ذلك لا أريد لك الظلم الذى عانيت أنا شخصيًا منه، كلها ثلاثة أشهر تعمل بالآثار وتعد لدرجة الماجستير، وإذا أردت العودة بعد ذلك للكلية سأعيدك لها، إننى أريد أن أمصر جو الآثار ولا أتركه للأجانب فقط، أنت أولى بحضارة بلدك.
ويعمل كمال الملاخ بنصيحة الدكتور طه حسين ويتجه الى العمل بالآثار، بل يشعر بلذة وسعادة فى عمله الجديد، ويعد لدرجة الماجستير على يد عالم الآثار الفرنسى دربتون، ويحصل على الماجستير فى الآثار وفقه اللغة المصرية.
وأعتقد أن الدكتور طه حسين كان يقصد بمعاناته التى حكى عنها للملاخ قصة بدأ أول فصولها فى 3 مارس 1932، عندما أصدر حلمى عيسى باشا وزير المعارف فى حكومة إسماعيل صدقى قرارًا بنقل الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية منذ نوفمبر 1930، إلى وظيفة مراقب التعليم الابتدائى بديوان وزارة المعارف، وكان نقل عميد الأدب العربى نوعًا من العقاب، فقد كان له العديد من المواقف التى أغضبت الحكومة، بدءًا من رفضه طلب وزير المعارف منح الدكتوراه الفخرية لعدة شخصيات فى الحكم، وانتهاءً برفضه عرض رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا بالاستقالة من الجامعة والعمل كرئيس تحرير لجريدة الشعب التى أصدرها حزب الحكومة.
وفى «٩ مارس 1932»، وهو التاريخ الذى اتُخذ رمزًا لاستقلال الجامعات، قدم أحمد لطفى السيد استقالته من منصب مدير الجامعة المصرية اعتراضًا على تدخل السلطة التنفيذية فى شؤون الجامعة عقب صدور قرار رئيس الوزراء بنقل الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب المنتخب، دون الرجوع إلى الجامعة ولا مشاورتها.
وبالعودة لمسيرة «الملاخ»، الذى استمر فى عمله فى قطاع الآثار بناءً على نصيحة العميد ليكتشف بعد سنوات «مراكب الشمس».. وبعدها بأسبوعين، ذهب جمال عبدالناصر لمكان الاكتشاف، وقال له إنه كان سببًا فى أن يذكر اسم مصر فى ٧٠ جريدة عالمية.
ما رأيكم دام فضلكم فى الأدوار الرائعة لأدوار: المثقف لطفى السيد.. المثقف طه حسين.. المثقف كمال الملاخ؟!.
نقلا عن المصري اليوم