القمص يوحنا نصيف
يسعدني أن أقدّم في هذا المقال شرحًا مُبسَّطًا لموضوع انبثاق الروح القدس من الآب.
* مقدِّمة:
+ تؤمن كنيستنا القبطية الأُرثوذكسية بأنّ الروح القدس منبثق من الآب وحده، حسب نَصّ الإنجيل" "روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق" (يو26:15) وحسب قانون الإيمان المقدَّس الذي بَلْوَرَه الآباء المُلهَمين بالروح القدس في مجمعَيّ نيقية (325م) والقسطنطينية (381م): "نؤمن بالروح القدس الرب المُحيي المنبثق من الآب".
+ لقد حَرَمَ مجمع أفسس (431م) إضافة أو حذف أي بند في قانون الإيمان، لهذا ترفض كنيسة الإسكندرية كلمة "فيليوك Filioque" (وهي كلمة لاتينيّة تعني: ومن الابن) التي أضافها الغرب على قانون الإيمان، دون أيّ أساس كتابي أو تقليدي أو لاهوتي.
+ لم تَكُن كنيسة الإسكندرية القبطيّة الأُرثوذكسيّة طَرَفًا، في النزاع الذي قام بين الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة اللاتينيّة، بخصوص "انبثاق الروح القدس" المعروف بنزاع "الفيليوك"، إذ كانت مستقلّة عنهم في ذلك الوقت. ولكن بعد دخول الغربيين إلى مصر في العصور الحديثة، حاملين معهم الانتماءات والعقائد الكاثوليكية والبروتستانتية، ظهرَت الحاجة لتوضيح العقيدة الأُرثوذكسية والردّ على الأفكار المُخالِفة لها.
* نبذة تاريخية:
- الكلمة اللاتينية Filioque معناها: "ومن الابن". واستُخدِمَت للتعبير عن ازدواج انبثاق الروح القدس، ليكون من الآب ومن الابن.
- أُضيفَت رسميًّا لقانون الإيمان في الكنيسة الكاثوليكية في القرن الحادي عشر، إلاّ أنّ تاريخها يرجع للقرن السادس.
- نشأَت الفِكرة أصلاً في أسبانيا كوسيلة للدفاع عن لاهوت المسيح ضدّ الأريوسيّة، التي كانت فلولها لا تزال منتشرة هناك في ذلك الوقت.. فلكي يؤكِّدوا مساواة الابن للآب في الجوهر، قالوا ماذا يمنع من إضافة كلمة "والابن" إلى قانون الإيمان، ليكون النص: "نؤمن بالروح القدس الرب المُحيي المنبثق من الآب والابن".
- أقرّ هذه الإضافة مجمع مكاني بالكنيسة الأسبانية، هو مجمع توليدو "طليطه" في القرن السادس.
- انتقلت هذه الإضافة من أسبانيا إلى فرنسا، ومن هناك إلى ألمانيا، فرحَّب بها الملك الألماني شارلمان [حوالي عام 800م] وفرضها على شعبه..!
- عندما سمع بذلك اليونانيون (البيزنطيّون) الأُرثوذكس اتّهموا الغربيين بالهَرطَقة. وقامت روما، التي لم تكُن قد قبلت الفيليوك رسميًّا حتّى ذلك الوقت، بدور الوساطة بين ألمانيا والبيزنطيين.
- في عام 808م كتب بابا روما لاون الثالث رسالة إلى شارلمان الملك الألماني، جاء فيها أنّه وإن كان يؤمِن هو شخصيًّا بالفيليوك كعقيدة سليمة، لكنّه يَعتبِر تعديل صيغة قانون الإيمان خطأً غير مقبول..!
- أخيرًا.. وفي القرن الحادي عشر، أقرّ البابا بندكت الثامن صيغة "الفيليوك" وأدخلها في قانون الإيمان أثناء صلاة القدَّاس.. فعندما علم بذلك البطريرك المسكوني بالقسطنطينيّة، أرسل مع اثنين من الأساقفة لبابا روما، خطابًا بحَرمِهِ وقطع الشركة معه ومع كلّ كنائسه.. فحدث على إثر ذلك انشقاق خطير بين الكنيستين الغربية والشرقيّة، لا يزال قائمًا حتّى الآن. كان ذلك عام 1054م، فيما سُمِّيَ بالانشقاق الكبير Great Schism.
* لماذا ترفض الكنيسة الأُرثوذُكسية إضافة [الفيليوك]؟
1- الأساس الإنجيلي:
هناك نَص واضح: "متى جاء المُعزِّي روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي" (يو26:15).
2- الأساس الكنسي:
ليس هناك أيّ قانون إيمان أو نَص ليتورجي في الكنيسة الأُولى يتضمَّن مفهومًا فيليوكيًّا، وبمعنى آخَر إنّ عقيدة الفيليوك لا تنتمي للتقليد الجامعي للكنيسة الأُولى.
3- الأساس الآبائي:
يؤكِّد الآباء أن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، ولدينا أقوال عديدة للقديس أثناسيوس الرسولي والقديس باسيليوس الكبير والقديس غريغوريوس النيصي يؤكِّدون فيها انبثاق الروح القدس من الآب وحده. فمثلاً يقول القدّيس غريغوريوس النِزْيَنْزِي:
"الروح القدس هو في الواقع روح، يصدر بالفعل عن الآب، ولكن ليس بذات الطريقة التي لإصدار الابن، إذ يتمّ (الإصدار) لا بالولادة بل بالانبثاق"
4- الأساس اللاهوتي:
عقيدة الفيليوك والانبثاق المزدَوَج غير مقبولة لاهوتيًّا للأسباب التالية:
- تؤدِّي إلى تشويش الخواصّ الأقنومية، فالابن يشارك في أقنوم الآب أو يحلّ محلّه.
- في حالة الانبثاق المزدوج فإنه سيكون في الثالوث القدوس عِلّتان أو أصلان أو مصدران، الأمر الذي لا يتّفق مع وحدانية الله.
- انبثاق الروح القدس من الآب سيكون غير تام.
- الإقلال من شأن الروح القدس بالنسبة للآب والابن.
- أُضيفَت صيغة الفيليوك دون قرار مجمع مسكوني ذي سلطان.
* بعض الحُجَج والردّ عليها:
أوّلاً: حُجَج كتابية:
1- يقول الربّ يسوع عن الروح القدس أنّه "يأخُذ مما لي ويخبركم" (يو14:16).
الردّ: الأخذ ليس هو نفسه الانبثاق..!
2- قيل عن الروح القدس أنّه: "روح ابنه" (غل6:4)، "روح المسيح" (رو9:8).
الردّ: لا يقصد معلمنا بولس الرسول بهذه العبارات أن الابن هو عِلّة أو مصدر وجود الروح القدس، فالروح القدس يُدعَى "روح الابن" بسبب مساواته للابن في الجوهر. أيضًا يُدعَى الروح القدس روح الحكمة والفهم، وروح المحبّة، وروح التبنّي.. فهل من الممكن أن نقول أنّه ينبثق عن الحكمة والفهم والمحبّة والتبنِّي..؟!!
3- هناك نصوص واردة في (يو16:14، يو26:15، 7:16)... عن إرسال الروح القدس للعالم بواسطة الابن..
الردّ: ينبغي التمييز بين إرسال الروح القدس وانبثاقه.. فالانبثاق هو فِعل أزلي ومن الآب فقط، أمّا إرسال الروح القدس على التلاميذ فهو فِعل زمني، أي حدث في توقيت مُعيَّن وَعَدَ الله به، ثم تحقَّق في يوم الخمسين بواسطة الآب والابن.
ثانيًا: نصوص آبائية:
تعبير مثل: "ينبثق الروح القدس من الآب بالابن أو خلال الابن (through the son)" استخدمه العلاّمة أُوريجينوس وترتليان والقديسان أثناسيوس وباسيليوس.
ويقول القديس ديديموس الضرير عن الروح القدس: أنّه ينبثق من الآب ويمكث لاهوتيًّا في الابن.
كما يقول القديس أبيفانيوس: إنّ الروح القدس ينبثق من الآب ويأخذ من الابن.
وأيضًا يقول القديس كيرلس الكبير: إنّ الروح القدس يفيض من الآب بواسطة الابن، يصدر ذاتيًّا وجوهريًّا من الآب في الابن.
الردّ: لا يعني الآباء بتعبير "ينبثق من الآب خلال through الابن" أنّ انبثاق الروح القدس هو انبثاق مزدوج من الاثنين؛ إذ نجدهم لا يقررون صراحةً في كتاباتهم بأنّه منبثق من الابن، إنّما بالعكس يقرّرون ويؤكّدون في تعاليمهم أنّ الروح منبثق من الآب فقط. ويشرح لنا القديس كيرلس الكبير تعليمه في هذا الخصوص فيكرّر أنّ الروح القدس ينبثق من الله الآب، كما من ينبوع، أما الابن فيُرسله للخليقة.
* ملاحظات ختاميّة:
1- الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة كانت هي القائد الرائد في الدفاع عن لاهوت المسيح الكامل، والوقوف ضدّ الأريوسية في العالم كلّه، عن طريق بطاركتها العظام ألكسندروس وأثناسيوس ثمّ كيرلّس.. ومع هذا لم تستخدم أبدًا فِكرة "الفيليوك". فلو كانت هذه عقيدة سليمة لاستخدمتها..!
2- هذه العقيدة ينقصها الأساس الكتابي والآبائي والليتورجي.
3- كيف نقبل "الفيليوك" دون مجمع مسكوني؟ فهي عقيدة تعتمد على تقليدات محلّيّة، في حين أن قانون الإيمان قد صاغته مجامع مسكونية.. وبالتالي فإنّ قبول هذه العقيدة يُقلِّل من شأن مجمع نيقية ومجمع القسطنطينية، ويستهين بصيغة قانون الإيمان البالغ الأهميّة..!
4- من الناحية التاريخيّة، فإنّ روما قد قبلت "الفيليوك" رسميًّا من أجل الملك شارلمان، ولأسباب سياسيّة.. كما أنّ مجمع "توليدو" الذي أقرّ الفيليوك في البداية، قد ظنّ أنّ هذه الإضافة تتّفق مع التقليد الشرقي.. بينما التقليدات الشرقية المتنوعة لم تستخدم مطلقًا أيّة عبارة فيليوكية في النصوص الليتورجيّة..
ربّما يرجِع هذا اللبس إلى اختلاف اللغة بين الشرق الذي يستخدم اليونانيّة والغرب الذي يستخدم اللاتينيّة، بالإضافة إلى قِلّة وجود مراجع لاهوتيّة قويّة لدى الغربيّين بلغتهم اللاتينيّة، إذ أنّ مُعظم آباء الكنيسة اللاهوتيّين العظام كانوا في الشرق، وكتبوا باليونانيّة.
5- أخيرًا، نؤكِّد على خطورة القول بالانبثاق من الآب والابن، إذ أنّ معناه هو: "انبثاق مزدوج للروح القدس".. وهذا ضدّ وحدانيّة الله..!
وإذا كانت هناك حاجة إلى انبثاق الروح القدس من الابن مع الآب، فلماذا لا نقول أنّ الروح القدس يلد الابن أيضًا مع الآب، أي يكون الابن مولودًا من الآب والروح القدس وليس من الآب وحده..؟!
بالتأكيد هذه الأفكار هي غريبة عن الكتاب المقدَّس وعن تعليم الآباء.
القمص يوحنا نصيف
أكتوبر 2023م
* المرجع: كتاب "انبثاق الروح القدس - Procession of the Holy Spirit" للقمّص تادرس يعقوب ملطي. وهو ورقة بحثيّة قدمها أبونا باسم الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة في أحد مؤتمرات الحوار المسكوني في الثمانينيّات من القرن الماضي.