صلاح الغزالي حرب
أتذكر جيدًا أنى فى أحد حواراتى فى التليفزيون المصرى منذ عدة سنوات قلت إن المواطن المصرى إذا ما ابتُلى بالمرض فإنه يكون كمن دخل نفقًا مظلمًا لا يعرف متى وكيف يخرج منه، وللأسف الشديد فإن هذه العبارة لا تزال صحيحة على أرض الواقع، من خلال ممارسة طبية تقترب من الخمسين عامًا.. وفى الحقيقة فإن هذا الوضع المؤلم له أسباب كثيرة، ومنها القصور الشديد فى الثقافة الصحية، وانتشار مفهوم التواكل وليس التوكل على الله، وانعدام دور المدرسة.
بداية علينا أن ندرك معنى الصحة، كما جاء فى دستور منظمة الصحة العالمية، والذى أقره مؤتمر الصحة الدولى، الذى انعقد فى نيويورك عام 1946: (الصحة هى حالة من اكتمال السلامة بدنيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا لا مجرد انعدام المرض أو العجز، والتمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة السياسية أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية). وبصراحة، وللأسف الشديد، يمكن القول إن هذا التعريف يغيب عن الكثيرين منّا، ويبدو ذلك واضحًا فى الممارسة العملية، ومنها على سبيل المثال:
1) لا يلجأ المريض إلى الطبيب غالبًا إلا فى وقت متأخر من المرض، بعد رحلة فاشلة بين بعض الصيادلة والأصدقاء والمعارف والمرضى السابقين!، وهو ما يشكل عبئًا كبيرًا على الطبيب المعالج وعبئًا أكبر على المريض، فالمتفق عليه عالميًّا أن الاكتشاف المبكر للمرض هو مفتاح النجاة، وخاصة فى حالات الأورام ومرضى السكر وارتفاع الضغط وغيرها.
2) هناك ظاهرة أخرى مؤسفة ألاحظها كثيرًا بين المرضى، وهى عدم الإلمام بطبيعة المرض الذى يعانى منه ولا الغرض من العلاج الموصوف، وكثيرًا ما أسأل مريضة الغدة الدرقية عن نوع المرض هل هو إفراز قليل أم كثير؟، فلا تعلم، وهى مريضة بالمرض، وتُعالَج منذ سنوات طويلة!، وهنا يأتى دور الزميل الطبيب بضرورة إعلام مريضه بفكرة مبسطة لطبيعة المرض ومستقبله، وعلى كل مريض أن يطلب ذلك من طبيبه.
3) من المؤسف أن نرى حتى الآن مَن يؤمن بالخرافات، ويبتعد عن الطبيب، ونحن فى عام 2023، وهناك مَن يتمسك بما يسمى بالطب النبوى، فى الوقت الذى يقول فيه القرآن الكريم: (وما أرسلناك إلا مبشرًا ونذيرًا)، ولم يقل طبيبًا ولا مهندسًا، فقد كان يلجأ عليه الصلاة والسلام إلى الطبيب المتاح فى ذلك الزمان، ومنهم الحارث بن كلدة، الملقب بـ«طبيب العرب»: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلىَّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يُشرك بربه أحدًا)، ومن ناحية أخرى زادت بالفعل العيادات والمستشفيات غير المرخصة فى كل المحافظات تقريبًا وكذا بعض المدعين أنهم أطباء، وهو ما يجب أن يواجَه بكل صرامة.
4) على شباب الأطباء أن يحترموا كل شكوى، مهما بدَت بسيطة، وألّا يتسرعوا فى اللجوء إلى الطب النفسى إلا بعد التأكد علميًّا من عدم وجود أسباب عضوية، وعلى المريض ألّا يقلل من أمر شكواه خوفًا من احتمال المرض، فالمرض هو أحد ابتلاءات الله سبحانه وتعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى كبد).
5) الانتقال بين الأطباء فى تخصصات مختلفة يجب أن يكون بإرشاد الطبيب المعالج الأول للمريض، فكثيرًا ما تحدث مضاعفات خطيرة- وقد تكون قاتلة- نتيجة التفاعل غير الحميد بين أنواع الدواء المختلفة، وهو ما شرحته من قبل، فى مقال: (احذروا علاج الأعضاء).
ننتقل الآن إلى أخطر ما يهدد سلامة وصحة المريض المصرى، وأعنى به نقص الأطباء وهيئة التمريض، وقد حذرت وحذر كثير من الزملاء من هذه الكارثة، وبكل أسف، لم يحدث تحرك عملى حتى الآن، ويكفى أن أذكر أنى وغيرى نلاحظ كثرة المترددين على العيادات الخاصة من أبناء الصعيد والدلتا، على الرغم من وجود كليات طب فى كل محافظة، وهو ما يثير أسفى وحزنى على هذا المريض، الذى يتكبد الكثير من المشقة والتكلفة المادية بحثًا عن الصحة، وكثيرًا ما أسأل المريض عن السبب، وتكون الإجابة غالبًا: (حضرتك ماتعرفش الوضع عندنا!)، وهى إجابة صغيرة، ولكنها حقيقية إلى حد كبير، وتستدعى إعادة النظر وبسرعة فى المنظومة الصحية بعيدًا عن الأرقام والوعود التى ملّها الناس.. ولذلك أعود لأنادى بوضع أزمة الأطباء فى مقدمة الأولويات، خاصة أن أسباب هجرتهم وسفرهم معروفة للجميع، ولا يمكن أن نلوم عليها الطبيب.. ومن المظاهر الغريبة وغير المفهومة أن بعض الأطباء بعد الإحالة إلى المعاش يطلبون الاستمرار فى العمل لسد النقص فى عدد الأطباء، ومع ذلك تتردد الوزارة وتتأخر فى الرد بدلًا من الترحيب بهم!!.
ويبقى الحديث عن دور الدولة فى التعامل مع المريض، وكما قلت سابقًا فإن المبادرات الرئاسية فى هذا المجال هى فقط التى تحملت المسؤولية، حيث تعاملت مع صحة المرأة والطفل والأمراض السارية والكبد وبعض أمراض العيون والأذن ومشكلة العمليات الجراحية المؤجَّلة وغيرها، وهو أمر لا مثيل له فى العالم من حولنا.. ويثور السؤال: ما دور وزارة الصحة، باستثناء تنفيذ المبادرات؟!، وعلى سبيل المثال، فلماذا لم تَجْرِ هذه العمليات الجراحية فى مستشفيات الحكومة من قبل؟، وإذا كانت التكلفة هى السبب، فلماذا لم تطالب بذلك؟، وهو نفس المنهج الذى سارت عليه الوزارة منذ سنوات طويلة، بدعوى العلاج على نفقة الدولة، وهو العلاج الذى من المفترض أن تقدمه مستشفيات الدولة!، ومن أموال الدولة!، أى أنه إنفاق مزدوج من الميزانية المرهقة لخداع المريض وإشعاره بالأهمية.
وعن آخر المبادرات الرئاسية المشكورة تحت عنوان: «100 يوم صحة»، قال المتحدث باسم وزارة الصحة إن الحملة قدمت 33 ألفًا و318 خدمة، ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر وعلاج الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوى!، كما قدمت خدمات التوعية والتثقيف الصحى لنحو 41 ألفًا و300 مواطن من خلال فرق التواصل الاجتماعى، كما أعلن وزير الصحة أن الحملة قدمت خدمات لفحص الأورام السرطانية (البروستاتا والقولون والرئة وعنق الرحم) بملء 10 آلاف و311 استمارة تبيان!. وبحسب القواعد الطبية الأساسية التى تعلمناها وعلّمناها لأبنائنا الطلبة، فإن الكشف على المريض له قواعد ثابتة يجب ألّا يحيد عنها الطبيب للوصول إلى تشخيص المرض، وبعد إجراء بعض التحاليل والأشعة وغيرها، إذا تطلب الأمر، وما عدا ذلك فليس كشفًا طبيًّا ولا رعاية طبية، كما كان الحال فى مبادرة 100 مليون صحة، المتميزة ذات الهدف الواضح، وكنت أتوقع وأتمنى أن تتفرغ هذه المبادرة الأخيرة طوال المائة يوم لتكثيف الثقافة الصحية فى كل وسائل الإعلام وفى كل المحافظات لتأكيد أهمية هذه الثقافة واستمرارها بعد ذلك.
خلاصة القول، ومن أجل ألّا يدخل المريض المصرى النفق المظلم، أطالب بثورة تصحيح تقودها كليات الطب ونقابة الأطباء، مع الاستعانة بخبرة أطبائنا وعلمائنا بالخارج لإصلاح المنظومة الصحية، وفى مقدمتها مشاكل الأطباء والهيئة المعاونة، وكفاءة المستشفيات، وتوفير الدواء والمستحضرات الطبية، مع تحديث التعليم الطبى، وترشيد المجانية.
نقلا عن المصرى اليوم