فاطمة ناعوت
«السُّكر غِلى/ وأنا أحايله بإيه/ وفى قلبى حِلى/ طعمه كده ليه؟» أغنية شهيرة خفيفة الظل شدَت بها الجميلة «إيزيس» أو «سهير المرشدى» من كلمات العمدة «سيد حجاب» وألحان الموسيقار «ميشيل المصرى»، فى مسلسل «ليالى الحلمية»، وكأنها من الفلكلور المصرى القديم. وأظن أن السكّر المقصود فى الأغنية مجازىّ المعنى، يغازل به الشاعرُ البناتِ الحسان ويعاتب نُدرتهن أو تدللهن على العشاق. لكن الواقع حوَّل مجازية الأغنية إلى واقع «مُرّ» يعيشه العالمُ بأسره فى ظل الارتفاع الجنونى للأسعار منذ جائحة كورونا وما تبعها من تضخم وكساد واستغلال التجار الجشعين. وهذا «المولد النبوىّ الشريف» قد دقَّ الأبواب قبل أيام، وهى المناسبة التى نتبادل فيها نحن المصريين علب «حلاوة المولد» كطقس خالد فى ثقافتنا منذ العصر الفاطمى. وتقف «عروسة المولد» على رأس الطقوس المصرية المحبّبة للمصريين، وهى كتلة ضخمة من السكر والماء، بالإضافة لأطباق الحلوى التى تتبادلها الأسرُ المصرية فى هذه المناسبة الطيبة. وهذا العام وصلت أسعار أطباق حلوى المولد لأرقام عجيبة تجاوزت بضعة آلاف من الجنيهات!!، وفضلًا عن السعر الخرافى، تأملوا كمّ المخاطر الصحية التى يحملها طبق الحلوى بما يحوى من كميات مخيفة من السكريات المركزة التى من شأنها أن تقتل أو تصيب الإنسان بالمرض!. ليتنا نستغل حالة الغلاء التى يمرُّ بها العالم لنتخلص من عاداتنا غير الصحية ونستبدل بها «الرمز»، فالخطيبُ الذى لابد أن يزور خطيبته بعروسة مولد وعلبة حلوى، وإلا عُيِّر، ماذا لو أهدى خطيبته طقمًا من حلل الجرانيت مثلًا، وكتب على الهدية: «حلوى المولد النبوى الشريف»؟!، هل بوسعنا أن نخرج من الصندوق الضيق، أم نُتهم بما لا يليق؟.
الغلاءُ الفاحش الذى يضرب جميع أنواع السلع وراءه جشعُ التجار. ولكن مَن الذى علّم التاجرَ الجشَعَ؟. نحن. لأن وراء كل تاجر جشِع مستهلكًا غير واعٍ. الهَدرُ آفةُ المجتمعات الرجعية. نلعن الغلاء وجشع التجار ولا نعترف أبدًا أننا أحد أسباب الغلاء وجشع التاجر والتضخم وعجز الموازنة. دعونا ننظر إلى سلال مهملات بيوتنا قبل أن يحمل عمالُ النظافة ما بها من صنوف طعام مغدورة لم تؤكَل حتى ندرك حجم هدرنا.
دعونى أقصُّ عليكم واقعة حقيقية عن وعى شعب بعيد، علّنا نتعلم منه كيف بوسعنا ترويض جشع التجّار بترويض أنفسنا.
فى أحد النهارات، ذهب مواطن أرجنتينى إلى السوبر ماركت، ولاحظ أن سعر طبق البيض مرتفعٌ عن الأمس. سأل البائعَ؛ فأجابه بأن شركة الدواجن رفعت سعر البيض ١ بيزو!. بهدوء أخذ المواطن الأرجنتينى علبة البيض وأعادها إلى مكانها قائلًا إن هناك ما يعوضه عن البيض. حذا حذوه جميعُ المواطنين وقاطعوا البيض دون حملات تعبوية ولا رسائل.
ماذا كانت النتائج؟. فى اليوم التالى: جاء مندوبو الشركات لإنزال إنتاج اليوم فى محلات السوبر ماركت كالعادة؛ فرفض الباعة أن يأخذوا أى جديد لأن إنتاج الأمس لم يُبَع، وطلبوا تبديل إنتاج اليوم بإنتاج الأمس. وهذا معناه إعدام البيض القديم لانتهاء صلاحيته. توقعت الشركات أن المقاطعة ستنتهى خلال أسبوع وبعدها سيعود الناس للشراء، لكن الأمر لم يختلف. ظل الشعب الأرجنتينى على موقفه أسبوعين وشركات البيض تخسر. الشركات تخسر لإطعام الدجاج، والإنتاج لا يتوقف لأن الدجاج مازال ينتج بغزارة، فتراكمت الخسائر على تلك الشركات وتضاعفت. اجتمع أصحاب شركات الدواجن وقرروا إعادته لسعره السابق. واستمرت مقاطعة الشعب الأرجنتينى للبيض، والشركات تفلس والمسؤولون يجن جنونهم لما يحدث، فاجتمع التجار مرة أخرى وقرروا ما يلى:
- تقديم اعتذار رسمى للشعب الأرجنتينى عبر جميع وسائل الإعلام.
- تخفيض سعر البيض عن سعره السابق إلى ربع القيمة السابقة.
إنها ثقافة شعبٍ ووعيه. ثقافة الاستغناء حين يعمُّ الغلاءُ، وثقافة عدم الهَدر حين تضيقُ ذاتُ اليد. قارنوا بين فوائد البيض ومضار السكر لتعرفوا جبروت شعب استغنى عن أساسيات، لا عن سموم.
تقول الإحصاءاتُ الدولية والمراقبون الاقتصاديون إن الدول الأكثر فقرًا هى ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا. بينما الدول الغنية لا تعرف تلك الثقافات الشكلانية المرضية التى تجعلك تشترى ما لا تحتاج إليه. مَن سافر إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها من دول الغرب يعرف أن المواطن هناك يذهب إلى السوبر ماركت فيشترى عدد واحد ثمرة برتقال، دون خجل، وثلاث حبات من ثمر الخوخ دون أن يفكر فى نظرة الكاشير وماذا سيقول عنه. لن يقول عنه شيئًا لأنه مثله ينتهج السلوك المحترم نفسه، ولا يشترى إلا ما يحتاج إليه، وفقط. ليس من سبيل لمقاومة الغلاء إلا بالاستغناء. علينا مقاومة الجشع بالوعى وعدم الهدر. دعونا نستمتع بالمولد النبوى الشريف دون أطباق حلوى، ولتكن حلوانا صدقاتٍ طيبة نخرجها للفقراء والمرضى والمعوزين. وكل عام ونحن أكثر طيبة دون سكر.
نقلا عن المصرى اليوم