القمص اثناسيوس فهمي جورج
رفرفت روحك العزيزة لتلحق بموكب الآباء الذين عشت سيرتهم، وعشقت حياتهم، وتمسكت بأمانتهم، وتكرست لدراسة منهجهم، وفكرهم، وكتاباتهم. لذلك خرجت قوة عظيمة من يديك المجتهدتين. وهذه هي الصبغة التي يصطبغ بها عشاق الآباء الممسكون بالجذور والأصول والبهاء
المتواري.
أخي سعيدًا، كان لك نصيب كبير من اسمك، لأننا خبرناك مغبوطًا، سعيدًا، حكيمًا اسمًا وسيرةً. فكنت راضيًا وسط العواصف، حكيما، مجتازًا للمصاعب، مرتقيًا سلم الفردوس في هدوء ومن غير تلفُّت في درب دراستك ومشاق البحث، حيث أجواء الأبواب الضيقة وكرب المسارات. لكنك أمسكت بيد المسيح إلهنا محب البشر، صاحب النير الحلو والحمل الخفيف. فعشت وعبرت كالنسيم الرقيق (سعيد القلب، حكيم القالب).
كان يناديك علماء اليونان: Μακάριος (أي المغبوط). هكذا كان يلقبك خبراء الباترولوجيا في بلاد اليونان في أثناء رحلة
دراستك هناك.
لقد عرفتك في مبتدأ التسعينات، عندما دعانا البابا العظيم المتنيح الأنبا شنوده الثالث في لقاء علمي جمع صفوة العلماء اللاهوتيين بالمقر البابوي، بدير القديس العظيم الأنبا بيشوي. وعلى رأس هولاء كان Professor Papadopoulos الباترولوجيست Patrologist (رئيس قسم الآباء بجامعة أثينا)، حيث كان المتنيح الأنبا بيشوي المطران وسكرتير المجمع آنذاك يرأس الجانب البحثي القبطي.
هناك التفتَّ إلى أساتذة الآباء اليونانيين الذين كانوا ينادونك انذاك مكاريوس ، لأنك وُجِدت مغبوطًا ومطوبًا. وبالحق إنك كنت أيقونة لدارس θεολογία في التقوى والتنقية واتضاع الفكر والروح السّلاميّة.
سعيدًا وحكيما … لقد علمنا الآباء أن العبرة ليست بعدد الوزنات لكن بمن تاجر بها وربح، وعلمونا أن الاسم والشكل والزي والرتبة لا تخلص الإنسان؛ بل تحقيق المقاصد وتكميل قانون الجهاد والسلوك بحسب الدعوة هو العبرة في سباق الجعالة. فعلي خُطَى الآباء نسير؛ وأنت رفيق مسيرة الواعين الواعدين منذ أن كنت فتى وَعودًا أخضر، ساعيًا باجتهاد وتعطش نحو الحياة الفاعلة، والمعرفة، والشهادة الدياكونية العملية بحسب منهج الآباء الأولين.
من أجل هذا تخطيت الصعاب والصدمات واحتملت الآلام، مجتازا الواقع المرير بفضيلة صبر القديسين، وبالهدوئية، وجحد الذات، ووضوح الهدف. فلم تكن مولَعًا بالأضواء إنما مبتعدًا عن البريق المزيّف، فارًّا من المحاور والتحزبات والصنمية للأشخاص. فكنت راقيًا بحق، وحاسبًا حساب نفقة تكريس الكيان بأساس لاهوتي έσχατολογία راسخ.
زرعت وأثمرت بالدموع، لذلك ستحصد بالابتهاج كما وعد الداعي. لقد سندت، وعلّمت، وصبرت، وثابرت، وتأنّيت، وتفانيت، وشجعت كثيرين. ونشهد على ما لمسناه وعاينّاه.
العجيب أنك كنت متأهبًا مستعدًّا في ترقُّب العارف ساعة رحيله. وقد تحقق عندي ذلك يوم زرتني زيارتك الاخيرة في الإسكندرية قبل شهور. وتأكد لديّ ذلك أيضًا يوم اتصلت بي في عيد العذراء.
معرفتك بقرب رحيلك جعلتك تثبت بوصلتك صَوبَ بُداءة الأبدية لتبدأ في هذه الساعة ومن هنا ، لتكون سيرتك ومسيرتك موصولة بمعاينة المجد غير الموصوف والخيرات المعدّة!
إننا لَنفتقد خدمتك المؤثرة، وروحك الودود العذبة، وعلمك الرصين، وهدوءك، وأمانتك، وإنسانيتك، ورفضك للعجلة والبطل والصخب. سعيد لماذا كنت هكذا سعيدًا؟! ولماذا كنت تهرب حتى من التصوير الفوتُغرافي الذي لا يعدو كونه شيئًا؟! لا شك أن السبب كان سر تطلّعك نحو الجمال الحي الذي تتضاءل أمامه كل الجمالات. وشخوصك نحو آباء الكنيسة الكبار ، الامر الذي زينك و جمّلك بعطرهم الزاهد. سمعت وتعلمت تلميذًا عند اقدام البابا انبا أثناسيوس الكبير وكيرلس الأول، وعايشت علي وجه الخصوص ذهبي الفم وأسقف نيصص اغريغوريوس في تفاسيرهم وأعمالهم، فحسنًا قيل إن الأب عندما يكبر ولده يجعله أخًا، فأنت سليل الآباء ، ابنهم واخوهم وتلميذهم .
اخي سعيدًا، إني أتامل صمتك معي، وأتعجب من كلامك معي، وتمر أمامي أحاديث وذكريات شريطًا يذكرني باتصالك وقت الشدة دون أن أخبرك، ومن دون أن يكون لك سابقُ علمٍ بأزمنة الضيق. هذه جميعًا صنعتها لأنك (ملاكٌ سعيدٌ حكيمٌ).
أثناء صلوات تجنيرك أحسست أمام صندوقك بأنك في متناول أنظارنا، وإن كنت غير منظور. وإنك لست ببعيد عنا لكنك تقف على الضفة الأخرى، وكل شيء عندك على ما يرام لأنك قد بلغت الميناء بسلام. إن الرابط بيننا لن ينقطع حسب الرجاء الموعود به. سلّم على الأحبة الذين عندك كلٍّ باسمه، فهم عارفون بحالنا لأنهم سبقوا وشاركونا الحُلم، طالبين صلواتهم عنا عند إله الأحياء، لنكمل بالستر والمسرة، ونوجد مقبولين في الاحتفال بالعيد الدائم.