كمال زاخر
موقع البوابة : السبت 30/سبتمبر/2023
فى سنوات الشباب الأولى، قبل نحو نصف قرن وبضع سنوات، خطت قدماى أولى خطواتها فى رحاب جامعة القاهرة العريقة، ومازلت اتذكر حالة الإنبهار التى تملكتنى وظلت ترافقنى طيلة سنوات الدراسة الأربعة، زمن مرحلة البكالوريوس، وحتى أصل الى كلية التجارة، كنت أعبر أمام كليتى الحقوق والآداب وعلى بعد خطوات منهما يقف البرج الذى يحمل ساعة جامعة القاهرة، التى طالما انتبهنا إلى رنات أجراسها الرخيمة والمميزة المنقولة عبر أثير الإذاعة المصرية، وهى تحدد التوقيت المحلى لمدينة القاهرة، وعلى يسارها تقبع قاعة الاحتفالات الكبرى العريقة والتى شهدت احداثا تاريخية فارقة فى تاريخنا الحديث والمعاصر، ثم نعبر ممراً خلفها بين ابنية كلية العلوم، يفضى بنا إلى كلية التجارة.
خلف كلية الآداب تقع مكتبة الجامعة التاريخية، وغير بعيد منها تقابلك كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الشابة، وقتها، فقد أنشئت بموجب قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 91 لسنة 1959، وتخرجت أول دفعة فيها عام 1963، كنت كلما مررت أمامها يلح على سؤال وما علاقة العلوم السياسية بالاقتصاد؟، كان سؤالاً ساذجاً اجابت عليه بعمق محاضرات علم الاقتصاد وعلوم الادارة عبر سنوات كلية التجارة وقتها. وايقنت بعدها الدور العلمى والعملى والضرورى الذى تقوم به كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى تمتد جذورها إلى كليات التجارة والحقوق والآداب وانعكس هذا على اقسامها التى بدأت بها مشورها، وهى: العلوم السياسية، الاقتصاد، الإحصاء، الإدارة العامة، والحاسب الآلي، وكان الرعيل الأول من اساتذتها من المتميزين فى تلك الكليات، ولهذا استطاعت عبر خريجيها فى سنواتها الأولى أن تجد لهم مكانة متقدمة فى مفاصل الدولاب السياسى والاقتصادى والدبلوماسى والمصرفى والتشريعى والإعلامى للدولة، وكان لهم دورهم فى تأسيس مراكز البحوث والدراسات السياسية والاقتصادية فى كبريات المؤسسات الصحفية واجهزة المعلومات، والتى تمد اصاحب القرار وجهات سن وتشريع القوانين، بالتقارير والتحليلات الموضوعية لما يتعرضون له من قضايا واشكاليات داخلية وقومية وعالمية فى الداخل والخارج.
جاء التحاقى بالجامعة متزامناً مع أحداث جسام، تشكلت عقب وبفعل هزيمة يونيو 67، والتى وضعت نقطة فى نهاية سطر شغف الشباب بالتجربة الناصرية، ليبدأ سطراً جديداً من المواجهة المثخنة بجراح انهيار الحلم، وتشهد الجامعة حراكاً طلابياً فيما يمكن تسميته انتفاضة الطلاب، فبراير 68، التى بدأت من كلية الهندسة، القابعة فى مواجهة الحرم الجامعى، لتمتد إلى كليات الحرم التى اشرنا اليها قبلاً، وكانت الشرارة التى فجرت حمم الغضب الطلابى، صدمة الأحكام الهزيلة التى قضت بها المحكمة على قيادات الطيران آنذاك، وكان من ابرز قيادات الطلاب وقتها الصديق احمد عبد الله رزة، والذى تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1973 وحصل لاحقاً على درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية من جامعة كمبردج بانجلترا 1984، واصدر العديد من الكتب التى تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والعمل السياسى، وقد التقيته قبيل رحيله عام 2006 فى ندوة ثقافية عقدها مركز الجزويت الثقافى بالأسكندرية وبدعوة من الأب الراحل وليم سيدهم، المؤسس لدعوة تمصير "لاهوت التحرير"، وحفر هذا اللقاء فى ذاكرتى.
كانت مطالب الطلاب فى انتفاضتهم؛ بحسب البيان الصادر عن اعتصام كلية الهندسة آنذاك
ـ الإفراج فورا عن جميع الطلاب المعتقلين .
ـ حرية الرأى والصحافة .
ـ مجلس حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة (مجلس الأمة)
ـ إبعاد المخابرات و المباحث عن الجامعات .
ـ إلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها .
ـ التحقيق الجدى فى حادث العمال فى حلوان .
ـ توضيح حقيقة المسألة فى قضية الطيران .
ـ التحقيق فى انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة.
ويعلق د. احمد رزة على هذا البيان بقوله "يتضح من ذلك أن ثلاثة من هذه المطالب تدور حول مسألة الديمقراطية فى البلاد ككل ، بينما تشير ثلاثة أخرى منها إلى غياب الديمقراطية فى الجامعة بوجه خاص ، ويركز مطلبان منها فقط على قضية الطيران والأحداث المرتبطة به.
وقد تفاعل الرئيس جمال عبد الناصر فى تفهم لافت لهذه المطالب ـ بحسب التقارير الإخبارية وقتها - فأمر بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال، وتشكيل وزارة جديدة كان أغلبها من أساتذة الجامعات (المدنيين) وذلك لأول مرة فى عهده، وطرح برنامج 30 مارس، الذى تضمن إصلاحات مستقبلية فى نظام الحكم. واستجاب لبعض مطالب الطلاب، فبرغم بقاء الحرس الجامعى داخل الجامعات إلا أنه لم يعد يتدخل مباشرة في النشاط السياسى للطلاب. كما انتشرت مجلات الحائط بكثافة داخل الجامعات المصرية. وصدرت لائحة لاتحاد الطلاب بموجب قرار جمهورى تمخض عنها اتحاد طلابى بلا وصاية من أعضاء هيئة التدريس.
كانت سنوات الجامعة تلك، بكل ما شهدته من احداث جسام، مرحلة مهمة فى تشكيل الوعى الوطنى لى ولجيلى عمقت فينا قيم الانتماء لوطن يستحق.
نقلا عن البوابة نيوز