عاطف بشاى
كنت ومازلت أُكِنّ للكاتب الكبير الأستاذ «أنيس منصور» غامر حبى وإجلالى وتوقيرى له.. فقد كان بالنسبة لى ومنذ صباى وأنا مازلت تلميذًا بالمرحلة الإعدادية، بمثابة «بابا نويل»، الذى حمل لى هداياه الثمينة من جواهر مؤلّفاته الجميلة بالغة الثراء والتنوع والعمق والإبهار فى شتى أنواع المعرفة فى الأدب والفلسفة والشعر والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والمنطق وأدب الرحلات وفنون المسرح والسينما والرواية والقصة القصيرة.. وكنت أعكف على قراءة كتبه التى أستعيرها من مكتبة قصر الثقافة.. وأعيد كتابة فصول منها فى كراستى المتواضعة لأحتفظ بها قبل أن تستردها المكتبة.. وأصبح أنيس منصور صاحب الفضل الأول الذى تعلمت منه ماذا أقرأ.. وكيف أقرأ السطور وما بين السطور.. المعنى الظاهر والمعنى المستتر.. والرمز والاستبطان والاستقراء
والاستنتاج والاستنباط والكناية والاستشفاف.. والتنكيت والتبكيت.. وصياغة الأطروفة.. وسلاسة التعبير وعمق المحتوى.. وجمال السبك والحبك.. وبراعة السرد الأنيق.. واصطياد المفارقات المدهشة.. وبلاغة العبارة المغموسة فى السخرية اللاذعة أحيانًا والمزينة بالتفلسف والحكمة أحيانًا أخرى، وإذا كان- كما يرى- العقاد يُحاضرك، وطه حسين يُحدثك، وتوفيق الحكيم يسخر منك ومن نفسه.. فأنا أرى أن أنيس منصور يقرأ لك أو يقرأ بالنيابة عنك ويحكى لك تجاربه وتجارب الآخرين.. فهو حكّاء مبهر لا نظير له.. يربط حكاياته بالتحليل النفسى والاجتماعى والإنسانى العميق.. ويستخلص العبر والإشارات والدلالات والتحولات فى الشخصيات من حال إلى حال ومن مذهب إلى مذهب.. ومن اتجاه إلى اتجاه فى رشاقة وعذوبة.
وقد قرأ- بالنيابة عنى- من خلال كتابيه الرائعين «يسقط الحائط الرابع» و«كرسى على الشمال» خلاصة الخلاصة فى المعانى العميقة لمسرحيات عالمية شهيرة لكبار المؤلفين.. ومنهم «أرثر ميلر» («بعد السقوط»)، و«تنسى وليامز» (اللعب الزجاجية)، و«بيرندلو» (6 شخصيات تبحث عن مؤلف)، و«دورنيمات» (زيارة السيدة العجوز)، و«يونسكو» («الكراسى» و«الخرتيت»).
وكان من أبدع تحليلاته الأدبية البراقة- بحكم دراسته العميقة للمدارس الفلسفية المختلفة، وخاصة المتصلة بالفلسفة الوجودية واتساق خصائصها مع مسرح العبث عند «يونسكو»- أنه استوحى فكرتها من خطاب مخيف تلقاه من صديق كان يعيش فى «ألمانيا النازية».. والخطاب يحتوى على أحداث ميلودرامية عبثية فاجعة، بعد أن تزاحم الناس لرؤية «هتلر»، فوقعت جرائم مأساوية، حيث داس رجل عجوز طفلًا بسيارته، ومات الطفل، وسقطت سارية عَلَم فوق شرفة بها أسرة كاملة، فماتت الأم والخادمة.. وكلب صغير.. ثم انفجرت أنبوبة الغاز فى أحد البيوت، واشتعلت النار فى البيت، ورغم أن الخادمة قد سمعت صراخ سيدتها.. فإنها فضلت أن تتفرج على «هتلر»، وتترك السيدة تموت اختناقًا هى وطفلاها، ويختم الصديق خطابه بعبارة تحتوى على مفارقة أنه فى نفس الليلة رقص أهل المدينة، وشربوا، وتشاجروا، حتى مات أربعون شخصًا من العربدة، وهذه الأحداث التى أدت إلى ولادة المسرحية قد وقعت فى مدينة «ميونخ» بألمانيا سنة 1938، وفى تفسيره البليغ لدلالة الأحداث ثم محتوى ومضمون المسرحية المخيفة، يقول أنيس منصور إن النازية قد حولت الناس إلى وحوش، حيث أطلقت غرائزهم، فأصبحوا بلا عقول، فالنازية كانت بمثابة كابوس تنطلق من خلاله كل مخاوف الإنسان وشروره أيضًا.. فالعقل هو الغطاء الحديدى الذى يكتم أنفاس الغرائز، وهو الفرامل التى تعطل الانطلاقات الوحشية.. حيث حوّلت النازية حياة الناس إلى أحلام مخيفة.. وجعلتهم يتصرفون بلا وعى وبلا إنسانية.. لقد جرّدتهم من إنسانيتهم، ثم أطلقتهم بعضهم على بعض.
والمسرحية نفسها عبارة عن ظهور حيوانات غريبة، اسمها «الخراتيت»، فى إحدى المدن.. لا أحد يعرف من أين جاءت.. ولكنها أثارت الناس وأخافتهم، ولم يجد الناس سبيلًا إلى الخلاص من الخوف من الخراتيت إلا بالتحول إلى خراتيت.. والدواء الوحيد هو أن يتعرض الإنسان للداء حتى يُصاب به.. فالدواء هو الداء نفسه، وبانتشار المرض انعزل الإنسان الذى لم يُصب بهذا المرض، وأصبح هو وحده المعزول.. تمامًا كأنه عجوز مريض.. أو قتيل ملقى إلى جوار الحائط.. لقد انسحب الرجل بعيدًا عن قطعان الخراتيت.. ولما وجد نفسه وحيدًا تساند على نفسه.. على إنسانيته.. على ضعفه، وقرر أن يبقى وحيدًا فى وجه الوحوش البشرية أو التى كانت بشرية.. و«يونسكو» فى رأى «أنيس منصور» لا يريد أن يقول إن الإنسان سيتحول إلى حيوان له قرنان وأربع أرجل.. لكنه ابتعد عن إنسانيته بصورة مضحكة.
إن الإنسان أصبحت حياته آلية بصورة أراجوزية، فهو يبعث على الضحك، لكنه فى نفس الوقت يبعث على البكاء.
نقلا عن المصرى اليوم