محمود العلايلى
على مر الشهور والأسابيع الماضية شاهدت أجزاء متناثرة من أعمال فنية درامية على منصات المشاهدة، والمعروف أن تلك الأعمال تقوم شركات الإنتاج بتنفيذها بالإتفاق مع هذه المنصات لتعرض عليها، بينما توجد أعمال أخرها تنتجها تلك المنصات لصالحها مباشرة، وإتسمت الأعمال التى شاهدتها بالتنوع بين الكوميدى والإجتماعى والتشويقى، بل والبوليسى والرعب، والملاحظ أن تلك الأعمال تميزت بمستوى جيد إلى حد كبير على مستوى الكتابة والإهتمام بالتفاصيل التى كانت غالبا ما يسقط فيها كتاب الدراما سابقا، وخاصة إذا كان الموضوع يختص بمجتمعات لم يعايشوها، أو أصول مهن ليس لديهم إلمام بأدبيات المشتغلين بها ومجتمعاتهم، كما تميزت تلك الأعمال بكثير من الجرأة فى تناول الموضوعات، وهو مالا يقدر عليه الإنتاج المعد للعرض على القنوات التلفزيونية، وغير خاف طبعا أن ذلك نتيجة لأن تلك الأعمال لا تتعرض للخطوات التقليدية المعروفة للرقابة على الأعمال الفنية، وإنما يحددها مستواها الفنى ومدى ملائمتها للذائقة التى تتلقاها من متابعى تلك المنصات.

والحقيقة أننى لم أشرع لكتابة هذا الموضوع لكى أتناول تقييم تلك االأعمال بقدر ما قصدت أن أذهب بعيدا للدخول فى مناقشة طالما إشتعلت وشغلت المتابعين للشأن الفنى، وهى تدور حول التساؤل إن كان الفن يزدهر فى مناخ التقييد وتحديد الموضوعات والإلتجاء للرمز والإسقاط حين الحاجة لذلك، أم تنتعش الأعمال الفنية عندما لايكون هناك حدود للإبداع ولا يكون هناك عوائق لذلك من المحددات الإجتماعية الصارمة، والقيود الرقابية الخانقة، ولا يكون للمبدع حكم إلا فنه فى إطار المنظومة المالية لهذه الصناعة الضخمة، التى تعتمد إقتصادياتها على الدفع مقابل المشاهدة، حيث لاتعتمد إدارات تلك المنصات على عمل بعينه لجذب المشاهدين ولكن على وعاء كبير من الأعمال يضفى الثقة على المنصة ذاتها ومن ثم يكثر المتابعون وتزداد الإشتراكات.

ولا تعد نوعية الأعمال المقدمة ولا قدر الحرية فى تناول الموضوعات ولا الحوارات هو العامل الجاذب فقط، ولكن فى حرية المشاهد فى إختيار الوقت المناسب له فى المشاهدة دون التقيد بموعد عرض طالما توافرت الحلقات أو الفيلم، كما أن الكم الهائل من الوجوه الجديدة أزال إلى حد بعيد التنميط المعتاد للشخصيات التى يلعبها الممثلين مما أضاف عاملا مشوقا إضافيا حيث لايعرف المشاهد مسبقا إن كانت تلك الشخصية ستكون على أى جانب من طيف الخير والشر، أو الفشل والنجاح.

فى عالم يعتقد كل واحد فيه أن قيمه الإجتماعية وأكواده الأخلاقية هى الصحيحة، نجد أن جو الحرية الفنية التى يتمتع بها الكتاب، أو ورش الكتابة، وأغلبهم من الأجيال الشابة الذين لم يعتادوا أن يتم الحجر على آرائهم وبالتالى إبداعهم هو ما سمح بخروج تلك الأعمال على هذه المستويات الرفيعة، لأن على أساس الأفكار والورق المقدم ينفق المنتجون على العمل مما يعطى صناعه من المخرجين ومديرى التصوير والمونتيرين ومؤلفى الموسيقى ومهندسى الديكور وكل الفريق الإمكانيات اللازمة لإنتاج عمل قادر على جذب المشاهد وإقناعه من ناحية، وقادر على منافسة الأعمال الأخرى وبالتالى تنافس المنصة ما سواها على الناحية الأخرى.

إن إقتصاديات الأعمال الفنية لاتختلف كثيرا عن إقتصاديات صناعات أخرى، فالمنافسة والرغبة فى الكسب هو ما يدفع الصانع للتفوق والتدقيق والبحث عما يجذب المستهلكين، سواء فى جودة المنتج، أوطريقة تغليفه وتقديمه، وهو ما ينتفى معه أساليب الإحتكار وأفكار الرقابة والتضييق والتوجيه، حتى لو لم يعجب البعض كثير من الجرأة أو بعضها فى طرح الموضوعات وسرد الحوارات غير المعتادة، حيث أن سلسلة الحرية الفنية لاتقف فقط عند صانعى الأعمال ولكنها تمتد للمشاهدين الذين لديهم كل الحرية والمسئولية فى المشاهدة من عدمها، أو عدم الإشتراك من الأساس.
نقلا عن المصرى اليوم