أحمد الجمال
ترحمّت مجددًا وسأظل أترحم عليه، كلما صادفت اسمه أو تذكرته، لما له من مكانة رفيعة فى عقلى وعقل كل من قرأ كتبه وعرف سيرته وأفعاله ومواقفه.
وهو الأمير عمر طوسون، حفيد سعيد باشا، والى مصر، وابن محمد على الكبير، ووالدته هى الأميرة بهشت حور، وقد ولد فى سبتمبر 1872 بالإسكندرية وتوفى فى القاهرة فى يناير 1944، وكان عضوًا فى مجمع اللغة العربية بدمشق، وله مؤلفات عديدة بلغت حوالى خمسة عشر كتابًا، عدا عن الكتب التى أمر بتحقيقها وكتب لها مقدمات.
ترحمت عليه؛ لأننى كنت أبحث عن الخلفيات التاريخية للصراع الدولى على القرم، بمناسبة الحرب التى نعيش أوارها الآن ونكتوى بها، وفوجئت بأن للأمير عمر طوسون كتابًا من تأليفه، طُبع عام 1936، وعنوانه «الجيش المصرى فى الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853- 1855»، وهى الحرب التى احتدمت بين الإمبراطورية الروسية، وعلى رأسها القيصر نيقولا الأول، وبين الإمبراطورية العثمانية، وعلى رأسها السلطان عبدالمجيد، وقد احتوى كتاب عمر طوسون على معلومات من الدرجة الأولى، وفيه تقصٍّ للأحداث الميدانية ولما ورد فى الدوريات الأجنبية المعاصرة للحدث، وفى كتب شهود الحقبة ذاتها مما يجعله مصدرًا أساسيًا، وليس مجرد مرجع لمن يريد أن يدرس الصراع الدولى الروسى- العثمانى، ويدرس حرب القرم.
ومن أهم ما فى الكتاب رصْده وبالتفاصيل لما قدمه الجيش المصرى بجنوده وقادته من بطولات جسورة ومن قدرة فذة على خوض المعارك.
واستعان المؤلف فى ذلك الرصد بشهادات لأجانب معاصرين ومشاركين فى الحرب، وبالصحف الإنجليزية.. ومما يجب ذِكره عن الكتاب أيضًا هو الدراسة الموجزة الدقيقة التى كتبها عمر طوسون عن تاريخ شبه جزيرة القرم، التى كانت من البلاد الإسلامية قبل قرون، وسكانها من التتر المسلمين، ويتولى حكمها حاكم يلقب بلقب «خان».
ويسرد المؤلف تفاصيل مهمة، اجتماعية واقتصادية وسياسية، عن تلك المنطقة، وكان المصدر هو رحلة ابن بطوطة إلى تلك البقاع، وبعدها ينتقل المؤلف لما جرى، ويحدد البداية بما كان بين القيصر نيقولا الأول والسلطان عبدالمجيد من صراع مكتوم كان يطمع فيه القيصر ويطمح للاستيلاء على أملاك «الآستانة»- عاصمة العثمانيين- خاصة إمارتى الدانوب أو ولايتى مولدافيا وفلاخيا.
وتعلل القيصر وتذرع بواقعة شجار أو «خناقة» بين الرهبان فى الأرض المقدسة «فلسطين» وبين قسس إغريق- يونانيين- أرادوا أن يغتصبوا أديرة الرهبان، وكان القسس من المشمولين برعاية القيصر والرهبان من المشمولين برعاية فرنسا، وعيّن السلطان العثمانى لجنة مؤلفة من فرنسيين ويونانيين، وكلفها بالتحقيق فى النزاع، ورغم استجابة السلطان لضغوط القيصر وحسمه النزاع لصالح القسس، إلا أن القيصر ازداد طمعًا وطلب من السلطان إصدار فرمان يعترف فيه بحماية القيصر الروسى لكل المسيحيين المقيمين فى الإمبراطورية العثمانية.. ورفض السلطان.
ثم وفى الخامس من مايو 1853، قدّم الأمير منتشكوف، مندوب القيصر، إنذارًا نهائيًا إلى الباب العالى، ضمّنه الطلب السابق، ليتجدد رفض السلطان، وعلى ذلك أمر القيصر أمرًا لجيشه بالزحف والإغارة على إمارتى الدانوب- مولدافيا وفلاخيا- واشتعلت نيران الحرب.
ومن فوره، ولإدراكه بقوة الجيش الروسى، أرسل السلطان العثمانى طلبًا إلى عباس الأول، والى مصر، أن يرسل نجدة من الجنود المصريين، فامتثل الوالى وأمر بتعبئة أسطول مكون من اثنتى عشرة سفينة حربية مزودة بـ 642 مدفعًا و6850 جنديًا بحريًا بقيادة أمير البحر حسن باشا الإسكندرانى، وتعبئة جيش برى بقيادة الفريق سليم فتحى باشا، مؤلف من ستة «آلايات» بيادة ومجموعها 15704 جنود، ومن آلاى تسعة جى سوارى ومجموعه 1291 جنديًا، ومن آلاى 3 جى طوبجية ومجموعه 2727 جنديا، وعدد بطارياته 12 بطارية، كل بطارية مكونة من ستة مدافع، فيكون مجموع مدافعه 72 مدفعًا، ويكون مجموع هذا الجيش البرى 19722 جنديا، هذا عدا ما أرسله الوالى المصرى عباس باشا- بعد ذلك- من الجنود ومن الأموال لمساعدة الدولة فى هذه الحرب.
ثم يذكر الأمير عمر طوسون أن الجنود الذين أرسلوا للدولة العثمانية لم يكونوا من الجيش العامل، بل أخذوا من جنود الاحتياطى الذين كان معظمهم قد خاض معامع القتال فى سوريا تحت إمرة إبراهيم باشا الكبير.
ويقدم المؤلف إحصاء عن قوة الجيش المصرى الذى تحت السلاح بصفة مستديمة، ويذكر أن قوات البيادة «المشاة» وصلت إلى 69748 جنديًا، وجملة قوات السوارى «الخيالة» 11628 جنديًا، وجملة قوات الطوبجية «المدفعية» 6775 جنديًا، وجملة طوبجية السواحل 12571 جنديًا.
ثم يذكر وبالتفصيل عدد الضباط ورُتبهم، التى منها ألقاب لم تعد مستخدمة وتبدو الآن غير مفهومة، فهناك فى القمة أميرالاى قائد أول وقائمقام قائد ثان، وبكياش، وصاعقول أغاسيان، ويوزباشى وملازم أول وملازمان ثانون وتعليمى.. إلخ.
ثم إن من أطرف وأعجب الوثائق فى كتاب الأمير عمر طوسون نص الفرمان الهمايونى الذى أصدره السلطان عبدالمجيد إلى عباس حلمى باشا، وهو صادر باللغة التركية فى أوائل شهر محرم الحرام سنة سبعين ومئتين وألف هجرية، ويخاطب السلطان واليه على مصر بألقاب منها: «الدستور المكرم المشير المفخم المحترم نظام العالم مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب متمم مهام الأنام بالرأى الصائب ممهد بنيان الدولة مشيد أركان السعادة والإجلال المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى سمير الطبع عباس حلمى باشا والى مصر حالًا الحائز لرقبة الصدارة الجليلة والنشان المجيدى الهمايونى الأول أدام الله تعالى إجلاله.. فليكن معلوما لدى وصول توقيعى الهمايونى الرفيع أنه كما هو معلوم للجميع أن قبول مطالب دولة روسيا بأكملها فيما يختص بمسألة الامتيازات الدينية...».
.. وللمقال بقية.
نقلا عن المصرى اليوم