د. منى نوال حلمى
مهما تكلمنا عن مضار وخطورة الخوف في حياتنا، ومهما شرحنا أن المخاوف أغلبها أوهام في عقولنا وخيالنا الموروث منذ عهود سحيقة، فإن الطريقة المثلى هي «الفعل» الذي نقوم به لإبادة الخوف والمخاوف. ومن تجاربى وليس من قراءة الكتب أن الوسيلة الأكثر فعالية والأسرع والتى تدوم هي أن «نواجه الخوف بالفعل المضاد». هذا يعنى أننى إذا حددت ما الذي أخاف منه، فإننى لا أتجنبه بأى شكل أو درجة، بل أدخل إلى عرينه المتوحش، وأعطيه فرصة أن يفترسنى. مواجهة مباشرة كاملة. وعندما تمر لحظات، وأفاجأ أننى على قيد الحياة ولم يفترسنى شىء، سأُشفى إلى الأبد. وهذه طريقة متبعة في الطب النفسى.
*****
لا أحضر الأفراح والمآتم وسرادقات العزاء. لست أؤمن بالمشاعر الجماعية في الفرح والحزن، فهى أدق المشاعر الحميمة، ولذلك لابد أن تبقى في حيز الخصوصية، ويا ريت لو بقيت سرية. عندما أموت، لا أريد عزاء. ليس فقط لأننى لا أؤمن بهذه الأشياء. ولكننى متأكدة أن الذين سيحضرون عزائى من النساء والرجال سوف يستمتعون بشرب القهوة، وهم يتبادلون الحديث عن أسرهم وكيف سيقضون الإجازات القادمة في المنتجعات والقرى السياحية، وعن أضمن البنوك لوضع مدخراتهم وأفضل المشروعات لاستثمار أموالهم. سوف يتبادلون أرقام الهواتف والعناوين، ويشكرون الظروف التي جعلتهم يتعرفون على بعضهم البعض، أي موتى.
ليست القضية كما أعتقد أن نموت، ولكن أن نُميت الأشياء بداخلنا، ونحن أحياء.. التنفس والحركة والأكل والشرب والتكاثر ليست معايير الحياة، هي فقط تدل على أننا نشغل حيزًا من الفراغ ليس إلا. وما أكثر الذين يشغلون حيزًا في الفراغ. وما أقل الذين يحيون.
******
إلى كل النساء والرجال على كوكب الأرض.. تعاطوا فقط «الحرية» بجميع مكوناتها ومكملاتها، ولا تتعاطوا الأدوية، الكبسولات والأقراص والحقن في العضل والوريد وتحت الجلد، لا تأخذوا الفيتامينات والمعادن والمكملات الغذائية. حقنة حرية واحدة في العقل، قبل الإفطار وقبل النوم، وتتكرر كلما شعرتم بالضعف أو قلة المناعة أو اليأس أو تهكم وشتيمة الآخرين.
******
الاستعجال صفة إيجابية للماكينات والآلات، وصفة سلبية للبشر.
الناس كلها في عجلة من أمرهم، في كل مكان نجدهم مستعجلين، يجرون، ويهرولون، يدفعون بعضهم
البعض كأنه آخر يوم في الحياة على كوكب الأرض. حتى القهوة يشربونها سريعة الذوبان، وأقراص الدواء يريدونها سريعة المفعول، والحب يريدونه سريع الإيقاع، والنجاح يريدونه سريع الخطوات، يأكلون ويشربون بسرعة، والكلام بسرعة، والضحكات بسرعة، وكسب الفلوس بسرعة، والزواج بسرعة، وأخذ القرارات بسرعة، والخلفة بسرعة، والانفعالات سريعة، وقيادة السيارات بسرعة، والغناء سريع، والرقص سريع.
إنها لمتعة ما بعدها متعة أن نفعل الأشياء بتمهل، ولكن بدقة. «التأنى» الآن أصبح عملة رديئة غير مستحبة، منبوذة. يقولون إنه عصر السُرعة، عصر «الإنسان الآلة»، الذي ينسجم مع التطور، ويتناغم مع الحضارة الرأسمالية التي تحكم العالم. حضارة تجعل البشر يشعرون أنهم في سباق دائم. واختُرعت شعارات وضعتها في أدمغتهم، مثل «الوقت فلوس».
إن السُرعة تقود إلى الأخطاء، والقرارات الهوجاء، وهى تمثل ضغطًا نفسيًّا هائلًا على البشر. وهناك نكتة سمعتها زمان أن رجلًا قال لسائق سيارته: «أنا مستعجل سوق ببطء».
وعلينا أن نتذكر دائمًا: «أن أحلى الثمار هي التي تمنحها الأشجار التي تكبر ببطء».
******
كلما ازداد ما نملكه من أشياء، ازدادت عبوديتنا له حريتنا حريتنا حريتنا، وبالتالى نقصت سعادتنا وراحتنا النفسية. لا أدرى لماذا الطمع والجشع؟. لماذا لا نكتفى بالقليل مادام يسد احتياجاتنا؟؟. نجد امرأة أو رجلًا عنده بيت بسيط مريح ونظيف، لكنه يريد أكثر من بيت وفى أكثر من مدينة وفى أكثر من بلد. ونجد دولاب النساء والرجال ممتلئًا بالأثواب والأحذية والجواهر من كل شكل ولون وماركة. والثلاجات في المطابخ فيها كل أنواع البقالة والنوع الواحد فيه عشرات الأنواع، ونجد كل أنواع اللحوم والطيور والأسماك، والمشروبات بجميع أنواعها. طبعًا هذا للميسورين ماديًّا، والذين يجدون متعتهم في المزيد من الامتلاك، وينسون أن هناك في العالم 830 مليونًا تحت خط الفقر، ويعيشون حالة المجاعة، نساء وأطفالًا ورجالًا، ومن جميع الأعمار.
الحرية هي قدرتنا على الحياة بأقل القليل.
******
تواصلت منذ شهور مع عدد من المنتجين، بخصوص إنتاج فيلم عن إحدى روايات أمى «نوال السعداوى» أو عن إحدى روايات شريف حتاتة أبى، والجميع ردوا بهذا الرد على اختلافهم: «آسفين ونعتذر.. الجرأة في روايات د. شريف ود. نوال عالية جدًّا.. وأيضًا الرقابة متشددة جدًّا جدًّا جدًّا». وبعض كُتاب السيناريو من النساء أو الرجال أيضًا أكدوا هذا الكلام.
هذا هو الحال اليوم في «هوليوود الشرق». عندما أعيد تقييم الأفلام المصرية، أجد أنها تدور في التيمات المكررة، المستهلكة، أو أنها فقيرة المستوى الفكرى، لا رؤية، لا تجديد حقيقى، ولا إبداع. أفلام أكشن، وأفلام عنف، تحكى حواديت ساذجة.
وعندما نسأل أهل السينما، لا يقولون إلا هذه الجملة: «أصل مافيش ورق حلو».
في «هوليوود الشرق»، لابد أن أكون من أصحاب الملايين والمليارات حتى أقوم بإنتاج رواية مختلفة شكلًا ومضمونًا، ترضينى على المستوى الفكرى والفنى، وتقدم الفن الذي يكسر الخطوط الحمراء، ويقول ما نسكت عنه، مع المتعة والبساطة.
كل يوم، تتصدع أدمغتنا برسالة الفن المقدسة، وكيف أن الفن هو قاطرة التقدم، والقوة الناعمة الضرورية التي تُعلى من قيمة المجتمعات، وأن الفن هو مرآة لا تخدع، تعكس التناقضات، وتعرى القبح، وتفضح الكذب.
والبعض من أهل السينما يشيدون بالأفلام الأمريكية والأوروبية وغيرها من بلاد العالم، ويتحسرون على ضعف سوق الفيلم المصرى. ويبررون هذا الضعف بقلة الإمكانيات والميزانيات.
لكن حقيقة الأمر ليست فقر الفلوس، وإنما فقر الفكر والخيال.
عندما جاءنى الرد: «آسفين.. الروايات جريئة، والرقابة متشددة»، تساءلت: مَن سيغير هذا المناخ؟؟، وإلى متى لا نقوم بمسؤوليتنا نحو التنوير؟؟، ومَن هم الذين يقاومون الجديد؟؟؟.
أمى كتبت ما يقرب من 35 رواية، تُرجمت كلها إلى 40 لغة عالمية، ولم تتحول أي واحدة منها إلى فيلم سينمائى. وأبى شريف حتاتة له 20 رواية، لم تأخذ طريقها إلى الشاشة. منذ ستينيات القرن الماضى، منذ عهد عبدالناصر، ثم السادات الذي سجن نوال مع رموز المعارضة في اعتقالات سبتمبر 1981، ثم عهد مبارك، لم
يقدما تنازلات ليرضى النظام عنهما. وبعد ثورة 30 يونيو 2013، تغير رأس النظام السياسى في مصر. ولكن الثورة الثقافية، والدينية، والفكرية، لم تحدث.
بعد رحيل نوال وشريف، صممت أننى لن أتوقف حتى يتم إنتاج بعض رواياتهما في السينما. وكان هناك حلم لأمى، وهو أن ترى إحدى رواياتها على الشاشة، بإخراج ابنها وأخى المخرج السينمائى عاطف حتاتة.
******
يكرهنا الناس أسوأ أنواع الكراهية التي ليس لها علاج لأننا فقط نقول الحقيقة، دون ترقيع ومواربة وتحايل ومراوغة. تريدين أن تحصلى على كراهية الناس من جميع الأطياف، فقط قولى الحقيقة دون أن تجعليها ترتدى حجابًا أو نقابًا. وأنت تريد أن يلعنك الناس على اختلافهم، ليل نهار إلى الأبد، فقط «قل للأعور إنت أعور في عينه». لن يكرهنا الناس لأننا ناجحون، أو أثرياء، أو ذوو نفوذ. لا شىء يزعج، ويُظهر في الناس أسوأ ما فيهم تجاهنا، إلا أن نحب الحقيقة، ونتشبث بها، وندافع عنها، أمام الجميع، ولا نعبأ بالعواقب. الحقيقة رغم بساطتها، وبديهيتها، «متوحشة»، وإعصار يطيح بكل الأشياء. الحقيقة، ولو أنكرها الجميع، تظل حقيقة.
******
من حياة اليتم في دار «راهبات العناية الإلهية» إلى قمة الشهرة والثراء. وكان لها حس فلسفى ساخر وآراء بديعة عن الحياة والجمال والحب والنساء والرجال والفقر والثراء. حقًّا فإن التجارب الصعبة هي ما تصنع الإنسان، أما أن تبقيه في القاع أو تنتشله من القاع إلى القمة. وكوكو شانيل واسمها الحقيقى جابرييل، عرفت كيف تقاوم وتحقق طموحاتها وتتشبث بأحلامها وتخلق من التراب ذهبًا. عند رحيلها كانت أغنى نساء العالم. وكانت تفعل ما تريد بصرف النظر عن مجاراة عادات وتقاليد المجتمع الفرنسى في عصرها. وابتكرت أزياء للمرأة، تجمع بين البساطة والشياكة والعملية. من أقوالها الرائعة:
تحتاج المرأة إلى الجمال لكى يحبها الرجال. وتحتاج إلى الغباء لكى تحبهم.
أناقة الأزياء لا تفيد دون أناقة القلب والروح.
إذا كانت المرأة بداخلها القبح فلن ينفعها أي ماكياج.
العمل والحب هما الحياة.
حياة واحدة نعيشها، لابد أن تكون ممتعة.
الأزياء تتغير. لكن فن الأزياء خالد.
المناصب المرموقة كثيرة. وكذلك النساء الدوقات. ولكن هناك كوكو شانيل واحدة.
إنها كوكو شانيل، أشهر مَن صمم الأزياء في القرن العشرين، والتى يمر على ميلادها 140 عامًا، في 19 أغسطس 2023.
******
«تعلمت منذ زمن طويل ألّا أتصارع مع خنزير أبدًا لأننى سأتسخ أولًا، وسيسعد هو بذلك ثانيًا».
من أجمل مقولات جورج برنارد شو «26 يوليو 1856- 2 نوفمبر 1950». كلمات حكيمة، لو طبقناها
فسوف ننعم بالهدوء، والراحة، والسلام الداخلى.
******
خِتامه شِعر
لست ميسورة الحال
أنفق المال بلا حساب
لست ثرية بالمعنى المألوف
لكننى أمتلك رصيدًا كبيرًا
في بنك الاستغناء
و«تحويشة العمر»
كلمات وحروف
نقلا عن المصرى اليوم