الأنبا موسى
لعل سائلًا يسأل: ما الأصول الدينية لهذه الوطنية المتأصلة فى كنيسة الأقباط؟ وأتصور- كاجتهاد متواضع منى- أن هذه بعض الأصول؟
1- اعتزاز بالأصل الفرعونى:
حقًا جميع المصريين- مسلمين وأقباطًا- إلى هذا الأصل المجيد، إلا أن الأقباط يشعرون باعتزاز خاص، بأنهم أبناء الحضارة الفرعونية، وذلك لأسباب عديدة نذكر منها:
أ- أن اللغة القبطية هى الامتداد الطبيعى للغة الهيروغليفية، وما زال الأقباط يستعملون هذه اللغة فى كنائسهم، وقليلون منهم يستعملونها فى بيوتهم.
ب- أن هناك ترجمة قديمة جدًّا ترجع إلى القرون الأولى فى المسيحية للكتاب المقدس بعهديه إلى اللغة القبطية، وهذه الترجمة تعتبر من أمهات الترجمات العالمية القديمة، التى يرجع إليها الباحثون فى أصول النصوص الكتابية المقدسة. فمعروف أن العهد القديم كان مكتوبًا بالعبرية. وفى عصر بطليموس فيلادلفيوس ترجمه سبعون شيخًا يهوديًا إلى اليونانية، فيما عُرف بالترجمة السبعينية،
أما العهد الجديد فكانت أغلب أسفاره اليونانية. وقد قام الأقباط منذ فجر التاريخ المسيحى بترجمة العهدين إلى القبطية، وهى اللغة الديموطيقية بالأحرف اليونانية، مع سبعة أحرف قبطية خالصة.
ج- الموسيقى القبطية ذات المواصفات العالمية المجيدة هى امتداد للموسيقى الفرعونية، بعد أن كتب لها الأقباط المسيحيون كلمات مسيحية.
د- الأعياد الفرعونية التى جرى تنصيرها، فصارت أعيادًا مسيحية كما ذكرنا.
هـ- الدين المسيحى لا يرتبط بدولة، ولا يتعارض مع الإحساس بالمواطنة، وضرورة الانتماء للوطن. ويشجع أبناءه على الخضوع لقوانين الدولة وحكمها، وتقديم المثال الصالح للمواطن الأمين، الذى يؤدى واجبه، وينشر الحب والخير، بين جميع المواطنين.
2- الاعتزاز بالكنيسة القبطية:
فالمعروف تاريخيًّا أن الكنيسة القبطية كانت لها الريادة فى مجالات عديدة، فى العالم المسيحى، وهذه بعضها:
أ- فى مجال الرهبنة: بدأت الرهبنة المسيحية فى العالم على أرض مصر، من خلال القديس الأنبا أنطونيوس، الملقب بأب جميع الرهبان. بالفعل إذا ما سألنا راهبًا فى أى مكان فى بقاع العالم وكنائسه المتنوعة، الأرثوذكسية وغير الأرثوذكسية، فسيعترف بفضل القديس أنطونيوس فى إنشاء الرهبنة المسيحية، ووضع أسسها، وتحديد معالمها، فحينما نُفى القديس أثناسيوس إلى الغرب، مضطهدًا من الأباطرة، كتب سيرة القديس أنطونيوس المصرى، الذى باع أكثر من ثلاثمائة فدان من أجود الأراضى، ووزع ثمنها على الفقراء، ومضى إلى الصحراء يتعبد لله، ويتلمذ آلافًا مؤلفة من راغبى النسك والصلاة والقداسة، كان ذلك فى قمن العروس (بنى سويف) ثم فى الصحراء الشرقية، وما زال ديره على البحر الأحمر، مقصد السائحين من كل مكان.
ب- فى مجال اللاهوت: معروف أن بابوات الإسكندرية كانوا دائمًا قادة للمجامع المسكونة، ويقصد بها اللقاءات التى كانت تتم بين قادة المسيحية فى كل العالم، لدراسة موضوعات إيمانية ورعوية مختلفة، ومعروف أنهم أسهموا بدور جوهرى فى وضع قانون الإيمان، الذى يهتف به كل أبناء المسيحية فى العالم حتى الآن. ومعروف أن آباء الإسكندرية الكبار ما زالت كتاباتهم اللاهوتية وتفسيراتهم للكتاب المقدس، وأقوال نسّاكهم ورهبانهم، تملأ المكتبات فى كل كل أنحاء العالم، وبلغات كثيرة منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها.. علمًا بأن أصولها كانت غالبًا باليونانية، وما زالت متاحة حتى الآن فى معاهد اللاهوت ومكتبات البحث العلمى.
ج- فى مجال الاستشهاد: يستخدم الأقباط تقويمًا خاصًّا بهم يبدأ عام 284 ميلادية، وهو العام الذى تولى فيه دقلديانوس الطاغية، عرش الإمبراطورية الرومانية. وقد ذاق أقباط مصر كل صنوف العذاب والاضطهاد عبر تاريخهم الطويل، من اليهود، والوثنيين، والرومان، والمماليك والأتراك.. وقد قدم الأقباط مئات الألوف من الشهداء فى الحقب المختلفة.. ولابد من شهادة هنا أن الإسلام المصرى سالم الأقباط على مدى قرون طويلة وعديدة. لذلك تعايش المصريون معًا فى ود وسماحة، حتى إلى سنوات قليلة مضت حينما حدثت بعض المتاعب بسبب تيارات وافدة، ليست من روح مصر، ولا من روح إسلامها السمح المتحضر.
3- الاعتزاز باليقين القبطى:
وأقصد به أن الأقباط يتمتعون بيقين داخلى عميق أن إيمانهم وعقائدهم وطقوسهم دقيقة إلى أقصى حد.
وقد ظهر ذلك جليًّا فى الحوارات اللاهوتية المختلفة، التى جرت فى العقدين الأخيرين، وتحت قيادة المتنيحقداسة البابا شنوده الثالث.
لقد دخلت الكنيسة القبطية فى حوارات لاهوتية مع:
أ- الكنائس الأرثوذكسية البيزنطية.
ب- الكنيسة الكاثوليكية.
ج- الكنائس البروتستاتنية المصلحة.
وكانت الكنيسة القبطية دائمًا تشرح عقائدها القديمة الراسخة، وتفسيراتها الكتابية، بصورة نالت تقدير الجميع، لأن الكنيسة القبطية: تقليدية قديمة، حافظت على الفكر المسيحى، وحقائق الإيمان والعقائد المختلفة، فى دقة شديدة، مما يجعلها مرجعًا لا غنى عنه فى فهم جذور المسيحية، وأصول عقائدها.
وكمجرد مثال على ذلك، أنه حينما حدث حوار بين الكنيسة القبطية والكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية (اليونانية وأخواتها). كانت صيغة التراضى بين الجميع هى صيغة القديس كيرلس الكبير، البابا السكندرى فى القرن الرابع، كما وضع قداسة البابا شنودة الثالث صيغة التراضى الجديدة باللغة الإنجليزية فكانت موضوع قبول الجميع، ونعمة الرب تشملنا جميعًا.
* الأسقف العام للشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم