في نهاية إعداد عمل فني، يطلق المخرج كلمة "فركش" للإشارة إلى نهاية العمل، لكن الكلمة نفسها باتت تنطبق على عدد من العاملين في هذا المجال، بعدما انتهى بهم الحال إلى دار إقامة، وانحسرت عنهم الأضواء، وابتعد الجماهير.

داخل "دار إقامة كبار الفنانين"، بمدينة السادس من أكتوبر كان باسيلي جريس، المخرج السابق في قطاع الإنتاج بالتلفزيون، يجلس على كرسي داخل غرفة من حولها غرف أخرى، حوت صورا لفنانين من أزمنة مختلفة، يقلب بين قناة وأخرى بحثا عن فيلم أو مسلسل يجذب انتباهه، لكن معاييره لا تتفق مع كثير من الأعمال المعروضة، محتفظا بتلك الانتقادات لنفسه، كبئر عميق لا يسمح لأحد أن يطّلع على ما فيه "العمر جري وكبرت في السن ودوري في الحياة خلص".

يقول باسيلي، إنه بدأ العمل الفني عام 1965، حين كان نور الدمرداش وإبراهيم الصحن، مديرين في إدارة التلفزيون، وكان باسيلي أحد أوائل خريجي معهد السينما الذين تم تعيينهم في التليفزيون، حينما بدأ عمله في البرامج السينمائية، ثم ما تلاها من تدرجات مهنية فوصل لمنصب جديد كمساعد مخرج، حتى أصبح في النهاية مخرجا "كنا أول حاجة نعملها السهرات وبعدين المسلسلات لحد ما عملوا قطاع الإنتاج وانتقلنا ليه كلنا".

يعتدل باسيلي الذي تخطى 87 عاما، في جلسته، ويفتح خزائن ذاكرته على مصراعيها، فيزيل عن صدره تنهيدة شوق بعد أن استحضر أعمالا أدارها بعينيه بالاشتراك مع صديقه الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، كان أهمها مسلسل "ريش على مفيش" الذي أسند بطولته للمرة الأولى إلى الفنان يحيى الفخراني، ومسلسل "رجال في الغروب" من بطولة الفنان الراحل عماد حمدي، إضافة إلى عدد كبير من الأعمال الفنية مع كبار الكتّاب ونجوم "الزمن الجميل" أمثال محمود المليجي وحمدي أحمد وسهير البابلي.

"فضلت في الإخراج لحد ما طلعت على المعاش وقعدت في البيت وحيد"، يستكمل المخرج، وذلك عقب وفاة زوجته التي لم ينجب منها، لكن أكثر ما كان يهون عليه وحدته زيارات صديقه أسامة أنور عكاشة بين الحين والآخر، الذي غيّبه الموت عن رفيق دربه باسيلي الذي أصبح وحيدا لا يستطيع خدمة نفسه ولا يجد من يهتم لأمره، ليضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى دور رعاية المسنين: "مفيش حد بييجي يزورني.. مراتي ماتت وأنا مش معايا أولاد والسن عمال يكبر".

كانت تلك الأمور مبررات لباسيلي الذي فضّل الإقامة في عدد من دور الرعاية المختلفة على أن يكون عبئا زائدا على إخوته، ورغم ذلك لم يجد السكينة التي ينشدها ليهتدي في النهاية إلى دار إقامة كبار الفنانين: "رحت كذا دار بس محستش بالراحة لحد ما قالوا لي على الدار هنا، بقالي أسبوعين، ودي مختلفة عن كل الحاجات اللي شوفتها على مدار 3 سنين".

أواخر ديسمبر الماضي، افتتح الدكتور أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية، دار إقامة كبار الفنانين بمدينة السادس من أكتوبر، كأول دار لرعاية فناني مصر المسنين الذين ضاقت بهم السبل وأصبحوا بلا مأوى، خصوصا عقب تعرض العديد منهم لظروف مادية صعبة خلال الفترة الماضية دفعتهم للبحث عن مأوى للإقامة.

"مكنش في قدامي غير الدار هنا عشان دوري خلص وفي أجيال جديدة بتطلع وبتقدم شغل كويس"، يستكمل باسيلي الذي تحول من مخرج للأعمال إلى مشاهد مقيم في دار كبار الفنانين "عملنا شغلنا وعملنا علامة مش هنفضل طول الوقت إحنا اللي شغالين وغيرنا متجمد يعني"، موضحا أن هذه دورة الحياة الطبيعة التي لا مفر منها: "أنا قاعد هنا لحد ما رحلة الحياة تخلص"، يقولها المخرج.

"الإقامة في الدار كويسة جدا وحابب أكمل هنا على طول"، بهذه الكلمات بدأ حسين مسعود "المونتير السينمائي" السابق وأحد المقيمين في الدار. قبل ثلاثة أشهر خاض مسعود رحلة طويلة بحثا عن مأوى يقيم فيه، عقب تعرضه لظروف عائلية صعبة أجبرته على الإقامة بعيدا عن أسرته "زوجته وأولاده الاثنين".

"بعد الظروف العائلية كان لازم أقعد أعيد حساباتي مرة أخرى"، يستكمل الرجل الذي بحث كثيرا على مكان للإقامة فيه، ليدله أحد أصدقائه بالتواصل مع نقابة السينمائيين والإقامة في الدار الجديدة دون مصاريف: "قبل ما آجي هنا أسعار دور المسنين برة كانت غالية جدا".

سنوات طويلة قضاها مسعود الحاصل على معهد سينما في عمله كـ "مونتير" سينمائي، مر عليه خلال تلك الفترة العديد من الأعمال الفنية التي قام بعمل المونتاج لها من أهمها فيلم "التخشيبة والهروب وكتيبة الإعدام" للمخرج عاطف الطيب بجانب "زوجة رجل مهم وفيلم خرج ولم يعد ونص أرنب" للمخرج الراحل محمد خان.

"أنا كان تعاملي مع المخرجين أكتر بس الفنانين كانوا يتكلموا معايا عن الأعمال"، يستكمل مسعود، متذكرا موقفا عندما اتصل به الفنان الراحل أحمد زكي طالبا منه السماح له بمشاهدة بعض المشاهد في فيلم الهروب التي قام مسعود بعمل عليها: "قالي هاجي أشوفه بس بيني وبينك من غير ما تقول للمخرج"، وذلك لقيام المخرج بمنع الممثلين بمشاهدة المشاهد قبل خروج العمل للنور خوفا من طلبهم تعديلات قبل انتهاء العمل: "لما بشوف الأفلام اللي أنا اشتغلتها أتذكر أحلى أيام حياتي".

"أسرتي عارفة إني هنا بس محدش بيرزوني منهم"، يقول مسعد، يكتفى الرجل بالاطمئنان عليهم بين الحين والآخر من خلال مكالمة هاتفية يقول "هما متفاهمين ظروفي وكانوا عارفين إني لازم أقعد وحدي شوية وأعيد حساباتي"، موضحا أنه ينوي الاستمرار حتى نهاية العمر داخل الدار.

ويحتوي الدار الحاصل على ترخيص من وزارة التضامن الاجتماعي على 36 جناحا تم تجهيزها بالكامل لاستقبال من عملوا في مهن فنية للإقامة بشكل مجاني، ولكن وفقا لعدد من الشروط والمعايير المختلفة.

يقول محمود عبد الغفار مدير الدار، إن فكرة إنشاء الدار كانت بمثابة حلم لكل فنانين مصر المسنين الذين عاصروا الحياة الفنية وتحديدا الذين كانت نهايتهم حزينة يقول "في فنانين كبروا في السن ومفيش حد يراعيهم ويلبي طلباتهم".

يشرح عبد الغفار الذي قدم أعمالا فنية عديدة، معايير وشروط إقامة الفنانين المسنين بالدار الذي أطلق عليه مسمى "إقامة كبار الفنانين"، والتي من أهمها تخطي الفنان المتقدم للإقامة بالدار سن الـ60 بجانب مساهمة هذا الفنان في تقديم أعمال فنية متنوعة خلال حياته، وتعرضه لظروف اجتماعية أو أسرية أو مادية أو صحية.

"الفنانين يتقدموا بطلب إقامة وبعدها يتم عمل بحث للحالة"، يستكمل عبد الغفار، لاختيار هيئة الإشراف على المؤسسة من يستحق الإقامة في الدار الذي يتم دعمه من قبل سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة يقول "الدار هنا يتحمل كافة المصاريف والنزيل يقيم بشكل مجاني"، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أعداد الطلبات من قبل الفنانين بالإقامة.

"الحالات اللي مقدمة طلبات تفوق سعة الدار"، يقول مدير الدار، موضحا أن العديد من النزلاء الذين قدموا أعمالا فنية متنوعة يرفضون الإفصاح عن هوياتهم: "يقولوا إحنا مش عاوزين حد يعرف عننا حاجة"، وذلك نظرا للسمعة السيئة لمسمى دار المسنين لذا قامت إدارة الدار باختيار مسمى دار إقامة كبار الفنانين، يقول عبد الغفار "مع الوقت هنشيل السمعة دي"، موضحا أنه من ضمن خطط الدار المستقبلية السماح للنزلاء في حالة رغبتهم بتنفيذ أعمال سينمائية ومسرحية: "اللي حابب يكتب مسلسل أو فيلم هنخليه يعمل ده".