(الجزء الثاني)
القمص يوحنا نصيف
حكيت في العام الماضي جزءًا من هذه الذكريات، والتي تعود إلى صيف عام 1979م، حتّى دخول أبينا لوقا السجن في أحداث سبتمبر 1981م، ثمّ خروجه في مارس عام 1982م. وأتابع في هذا المقال سرد ذكريات أخرى، ابتداءً من ذلك التاريخ، واضعًا أمامي أنّ "ذِكْر الصدّيق للبركة" (أم10: 7).
خرج أبونا لوقا من السجن أوّلاً قبل خروج أبينا تادرس بعدّة شهور، وكان ذلك في أيّام الصوم الكبير من عام 1982م.
كان ممنوعًا على مُعظم الآباء الذين خرجوا من السجن أن يعودوا إلى كنائسهم، وبالتالي كانوا يختارون كنائس أخرى للصلاة فيها.. لذلك كان أبونا لوقا يصلّي أحيانًا في كنيسة الأنبا تكلا بالإبراهيميّة أو في كنيسة الملاك ميخائيل بمصطفى كامل، وأخيرًا استقرّ تمامًا في كنيسة السيّدة العذراء والبابا كيرلّس عمود الدين بكليوباترا حمّامات، فقد كانت هي الأنسب، لقربها الشديد من منزله (دقيقتين مشيًا على الأقدام)، ولأنّها أيضًا كانت تفتقد كاهنها الوحيد القمّص صموئيل ثابت، الذي لم يُسمَح له بالصلاة فيها بعد خروجه من السجن.
في فترة أسبوع البصخة من عام 1982م، كانت عظات أبينا لوقا سبب تعزية وسند روحي كبير لنا. وأتذكّر مثلا أن عظة جمعة ختام الصوم كانت في كنيسة الأنبا تكلا وتكلّم فيها عن زمن افتقاد النفس، وعظة مساء ثلاثاء البصخة كانت في كنيسة مارمينا فلمنج وتكلّم فيها عن الفرح بالعُرس.. وقد كان الصديق الحبيب الدكتور محبّ وديع يجول بجهاز التسجيل يوميًّا، لتسجيل العظات وإحضارها لنا، فقد كان مسؤولاً عن المكتبة الصوتية في ذلك الوقت.
لسبب قُرب كنيسة السيّدة العذراء بكليوباترا من كنيسة مارجرجس سبورتنج (ثلاث محطّات ترام - 15 دقيقة مشيًا على الأقدام)، وقد استقرّ فيها أبونا لوقا وأبونا تادرس طوال الثمانينيّات، فقد كانت اجتماعات الخُدّام الأسبوعيّة تتمّ فيها مع أبوينا المباركين، كلّ يوم أحد في السادسة مساءً. كما كُنّا نحضر فيها عشيّة السبت أيضًا لنتغذى بدراسة الكتاب المقدّس، بالإضافة إلى العديد من الأيّام الروحيّة والقُدّاسات..
أتذكّر في أواخر صيف 1983م، أنّ أبونا تادرس وأبونا لوقا بدآ في دراسة رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية، في عشيّة يوم السبت، بكنيسة السيّدة العذراء بكليوباترا. كانا يشرحانها بالتبادل على مدى عدّة شهور، فبدأ أبونا تادرس الأصحاح الأوّل، ثم أكمل بعده أبونا لوقا جزءًا من الأصحاح الثاني، وهكذا.. حتّى نهاية الرسالة. وكان يقوم بالتسجيل بصفة مستمرّة الشماس المهندس نعيم فرج. فكانت هذه الدراسات الإنجيليّة بمثابة وجبة روحيّة دسمة لنا جميعًا.
كانت فترة الثمانينيّات تُعتَبر فترة نهضة عظيمة لكنيسة السيّدة العذراء بكليوباترا، تلك الكنيسة التي كانت ناشئة، ومبناها لم يزَل بسيطًا مؤقّتًا بسقف من الصاج، لكنّها كانت مشتعلة بالروح لسبب صلوات وعظات أبوينا العملاقين فيها..!
كان منزل أبينا لوقا مفتوحًا دائمًا لنا، نذهب إليه في أي وقت لنجلس معه، نستمع لكلمة روحيّة من الإنجيل، أو نستشيره في أمور الخدمة.. وكان كعادته في معظم توجيهاته، يركّز على وقفة الصلاة في المخدع، مع الشبع بالإنجيل..
رتّب الله في صيف 1989م، أن يسافر أبونا لوقا للخدمة مرّة ثانية في لوس أنجلوس، حيث أسّس كنيسة جديدة في تورانس، واستقرّ بها.. ولكنّه كان مواظبًا على زيارة مصر سنويًّا بشكل شبه منتظم، وقد سُمِح له بالدخول والصلاة في كنيسته مارجرجس سبورتنج.
بعد سيامتى كاهنًا في عام 1996م، كنت ألتقي بأبينا لوقا من آن لآخَر أثناء زيارته لمصر. وكنتُ أحظى بأبوّته وتشجيعه. وفي يوليو عام 2004م، عندما انتقل والدي بالجسد، حضر صلاة التجنيز، إذ كان موجودًا بالإسكندريّة في ذلك الوقت.
في أوّل زيارة لي للولايات المتّحدة في نوفمبر 2005م، زرته في بيته بلوس أنجلوس، وتمتّعت بجلسه روحيّة معه.. وقد كان في معظم الأحيان يقرأ جزءًا من العهد القديم، ويتأمّل فيه بشكل مُفرِح وعميق..
توطّدَت علاقتنا أكثر في السنوات الأخيرة من حياته، فكنّا نتحادث تليفونيًّا أكثر من مرّة كلّ شهر، وكان يحكي لي بأسلوبه المؤثِّر العديد من الذكريات.. معظمها عن عمل الله معه، وكيف سنده بنعمته، وتمجّد بقوّة في حياته، وأنقذه من شرورٍ كثيرة..!
كما كُنّا نلتقي سنويًّا في مارس من كلّ عام، في تذكار نياحة القدّيس القمّص بيشوي كامل، بمنطقة نيوجيرسي، حيث نصلّي القدّاس الإلهي معًا، ثمّ في المساء نتعزّى بأمسيّة روحية حول سيرة أبينا بيشوي، في تسابيح وكلمات روحيّة، كان أبونا لوقا هو مسك الختام فيها.
فترة المرض الأخير التي اجتازها أبونا لوقا، والتي استغرقت عامًا ونصف تقريبًا، كانت فترة إثمار غير عادي في حياته، من جهة الكتابة والعظات.. فعلى الرغم من الجسد الضعيف المُنهَك، كانت الروح نشيطة جدًّا.. وقد حرصت على زيارته، وقضاء بعض الوقت معه، أكثر من مرّة في تلك الفترة..
في ديسمبر 2019م اتّصل بي أبونا، وطلب أن أنشر له على صفحتي بعض مقالات حديثة كان يكتبها، حتّى تصِل إلى أكبر عدد من القرّاء. كان هذا بالطبع بمثابة شرف وبركة لي. وفِعلاً بدأت في النشر، وهو استمرّ في الكتابة بفيض، كأنّه ينبوع لا يتوقّف.. لقد كان يُسابق الزمن، لكي يُفرِّغ ما في جعبته من خبرات أغناه الروح بها، وهو يَعلَم أنّ الوقت المتبقِّي قصير جدًا.. فكانت هذه السلسلة من المقالات الكبيرة، والتي تجاوزت الثمانين، تتويجًا لكلّ ما كَتَبَهُ في حياته من قبل.
مرّت الأيّام بسرعة، وانطلقت نفس أبينا الحبيب إلى مواضع النياح والفرح، بعد أن تاجر بوزناته وربح نفوسًا كثيرة للمسيح، وستظلّ كلمات الروح القدس الناريّة التي خرجت من فمه، أو التي خطّها قلمه، تجتذب كلّ يوم نفوسًا للتوبة والتمتّع بأحضان الله محبّ البشر، الذي له كلّ المجد والكرامة، إلى الأبد، آمين.
بركة صلوات أبينا الحبيب المتنيّح القمّص لوقا سيداروس تكون معنا. آمين.