هاني لبيب
لماذا لم نحتفل بعيد وفاء النيل فى 15 أغسطس الجارى؟.
وبمعنى أدق.. لماذا يمر عيد وفاء النيل مرور الكرام من محافظة القاهرة ووزارة الثقافة، أو أى جهة حكومية منوط بها هذا الأمر؟.
اعتقد المصريون القدماء أن نهر النيل هو مصدر الحياة منذ استقرارهم على ضفافه منذ آلاف السنوات، وارتبطوا به، ومن خلاله أسسوا لنظامهم الزراعى، وحددوا التقويم والفصول المناخية لتحديد حالة الجو، فكان مصدر الإلهام والحياة والسعادة، حتى فى العالم الآخر الذى بنوا له مراكب الشمس.
اعتبر المصريون القدماء، نهر النيل، هو أصل الحياة.. لذا كان من الطبيعى أن يبدأ التقويم المصرى القديم مع الفيضان الذى اعتبروه مؤشرًا لبداية كل عام جديد.. ووصل تقدمهم فى نشر مقاييس النيل على امتداد مجرى النهر العظيم لرصد ارتفاع الفيضان الذى يترتب عليه وفق حسابات دقيقة تحديد ناتج المحاصيل والضرائب المستحقة على الأرض.
حاول مزوّرو التاريخ الموالون لجماعة الإخوان الإرهابية أو موالاة التفخيم والتضخيم فى السلطنة العثمانية التهوين من قيمة الحضارة المصرية القديمة بإشاعة العديد من الأفكار والمقولات التى من شأنها الحطّ من مكانة هذه الحضارة، مثل وصف المنحوتات بـ«الأصنام» و«المساخيط»، للتعامل معها باعتبارها كفرًا بيّنًا، مثلما روجوا أن بناء الأهرامات ونحت المسلات تم بالاستعباد والسخرة.. كما روجوا لدموية حضارة مصر القديمة من خلال فكرة التضحية البشرية لنهر النيل بإلقاء عروس جميلة فيه يوم عيده؛ وهو ما ثبت خطؤه بعدما أثبت المؤرخون وخبراء الآثار أن ما كان يتم التضحية به هو دُمى خشبية فى الاحتفال السنوى الذى ارتبط أيضًا لدى البعض بإلقاء قطع النقود الفضية والذهبية كنوع من التكريم والاحتفاء بنهر النيل وخير فيضانه.
لقد كنا منذ سنوات قريبة نحتفل بعيد وفاء النيل، حتى إن الفن المصرى العظيم قد سجل هذا فى بعض أفلامه.. ولكن تراجع الاحتفال بالنهر العظيم، ولم يتبق فى ذاكرة الكثيرين سوى وهم التضحية بعروس بشرية جميلة.
تذكُر كتب التاريخ أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون بعيد وفاء النيل، حيث كان يجلس ملوك مصر القديمة على مقاعد خاصة بهذه المناسبة ويأتى الشعب وحكام الأقاليم بالهدايا والخيرات، احتفالًا بفيضان النيل الذى يعد حدثًا عظيمًا يجلب الخير والفرح والسعادة على أرض مصر.
أعتقد أن الاحتفال بعيد وفاء النيل ارتبط بفكرة «عروس النيل»، التى لا يزال يؤمن البعض بأنه كان يتم اختيار فتاة عذراء من أجمل بنات مصر ليتم زفافها وهى فى أبهى زينتها.. ليتم إلقاؤها فى النيل كقربان للوفاء له، وسط الأغانى والموسيقى والأفراح فى كل أنحاء مصر. وقد رسخ فيلم «عروس النيل» لرشدى أباظة ولبنى عبدالعزيز هذه الفكرة ذات الأبعاد الدرامية المتخيلة، وليست الحقيقية بكل الأحوال.
أذكر أننى قرأت أحد الكتب التى تحدثت عن عيد وفاء النيل والاحتفال به من خلال إلقاء تمثال من المرمر لإيزيس، التى جاء الفيضان من دموعها بسبب حزنها على أوزوريس، حسبما تقول الأسطورة الشهيرة القديمة، وهو تأكيد لعظمة أجدادنا وقِيمهم الإنسانية والجمالية البعيدة كل البعد عن فكرة الإيحاء بأنهم من مقدمى القرابين البشرية.
عيد وفاء النيل هو عيد وطنى مصرى لكل المواطنين المصريين، وهو بمثابة الاحتفال باستمرار الحياة.. ولذا لا أستطيع تبرير عدم الاهتمام بهذا الاحتفال وإهماله. ودائمًا ما أدعو إلى أنه يمكن الاحتفال به بشكل متطور.. يحمل دعوات لحماية النهر العظيم من التلوث، واستثماره سياحيًا لتكريمه بما يستحق من عطاء، كمصدر للخير والخصوبة والنقاء والسعادة والترفيه والحياة.
عيد وفاء النيل هو عيد مصرى أصيل، له أبعاد ثقافية واجتماعية وإنسانية وحضارية.. وذلك على غرار: عيد حصاد القمح، وعيد جنى القطن. وهى أعياد كانت لها أهميتها القصوى على مر التاريخ لدى الإنسان المصرى. وللأسف، تراجعت بعد أن اقتصرت غالبية احتفالاتنا وعطلاتنا على الأعياد الدينية، واختفاء الأعياد الشعبية الفولكلورية ذات الخلفية التاريخية، رغم أنها من المظاهر الأساسية للانتماء والارتباط بالأرض والوطن، وهى كذلك مساحات مشتركة اتفق فيها المصريون جميعًا وتوحدوا قبل ظهور الأديان.
نقطة ومن أول السطر..
آن الأوان لمراجعة مثل هذه القصص الرمزية وهدفها الذى يؤكد دلالة اهتمام أجدادنا بالنيل، وأنهم ليسوا من الكفار، وليسوا من مقدمى القرابين البشرية.
الاحتفال بنهر النيل العظيم هو فرض وطنى.
نقلا عن المصري اليوم