الانبا موسى
في هذا الشهر احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالعيد المئوى لقداسة البابا شنودة الثالث، الذي عُرف بوطنيته الأصيلة، حيث إنه معروف عن الكنيسة القبطية وطنيتها الأكيدة، عبر تاريخها الطويل، فمنذ أن أسس مارمرقس الرسول- أحد رسل السيد المسيح- كنيسة الإسكندرية، في مطلع النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، اتسمت هذه الكنيسة بطابع وطنى، تتضح معالمه عبر علامات بارزة ومجيدة، هذه بعضها:
1- رغم أن اللغة السائدة في العالم آنذاك- مع بداية التاريخ الميلادى- كانت اليونانية، فإن الأقباط ترجموا الكتاب المقدس من اليونانية إلى القبطية، وتُعتبر الترجمة القبطية إحدى أقدم ترجمات الكتاب المقدس في العالم المسيحى.
2- كما توارث الأقباط الأعياد المصرية القديمة، وصبغوها بصبغة مسيحية، فأصبحت للكنيسة القبطية أعياد خاصة بها، وكما كانت هناك احتفالات شعبية عارمة بآلهة الفراعنة والمناسبات المختلفة، استمرت هذه الأعياد نفسها، لكن في صبغة مسيحي جديدة.
إن تسمية عيد ميلاد المسيح بالكريسماس «Christmas» يستحيل أن تكون إلا قبطية، فكلمة «Mas» معناها في القبطية «ميلاد».
3- في يوم «شم النسيم»، المرتبط بقيامة السيد المسيح من بين الأموات، مثلًا، تحول الاحتفال بالربيع، وهو الاحتفال القومى المصرى، إلى احتفال بالقيامة، حيث كلمة «شم النسيم» في القبطية تعنى التمتع برائحة البساتين، فتحول الاحتفال المصرى القديم، المرتبط بالقيامة، إلى احتفال مصرى حديث ومستمر، تسود فيه نفس التقاليد القديمة، كالخروج إلى الحدائق، وأكل البيض والسمك. أما البيض فلأنه يشير إلى القيامة، حينما يخرج كائن حى بنفسه، كاسرًا غلاف البيضة، تمامًا كخروج السيد المسيح من القبر، كاسرًا شوكة الموت، وأما السمك، فلأن كلمة سمك تعنى باليونانية ΙΧΘΥΣ، وهى الحروف الأولى لعبارة: «يسوع المسيح ابن الله مخلصنا»، وكانت رمزًا شفريًّا بين الأقباط، حينما كانوا تحت الاضطهاد اليهودى والوثنى، إذ كان مجرد رسم سمكة معناه أن هذا الشخص مسيحى.
4- حتى الموسيقى الفرعونية، ورثتها الكنيسة القبطية، ثم صبغتها بالصبغة المسيحية، وهى- بشهادة علماء الموسيقى العالميين- تراث فريد، إذ تتنوع أنغامها بين اللحن السنوى في كافة أيام السنة العادية، و«الفرايحى»- أيام الأعياد، و«الحزاينى» أيام أسبوع الآلام، و«الشعانينى» في أحد السعف.. وغير ذلك. وقد بذل المتنيح الدكتور راغب مفتاح، مع علماء موسيقى أجانب، جهدًا خارقًا في تسجيل وكتابة نوتة هذه الألحان حفاظًا عليها، ومازالت الكنيسة تسلم هذه الألحان إلى الأجيال المتعاقبة استمتاعًا بها، وحفاظًا عليها كتراث ثمين.
5- حينما حاول الأجانب التدخل في عقيدة أو إدارة الكنيسة القبطية، ثارت ثائرة الأقباط، ورفضوا هذا التدخل، واحتملوا في سبيل ذلك كل ألوان العنف والاضطهاد، حتى تم سفك دم الآلاف منهم. حدث ذلك أيام البيزنطيين، حين حاول الموالون لمجمع خلقيدونية فرض بطريرك دخيل على مصر، احتفظ مع السلطة الدينية بالسلطة المدنية، مستغلًّا الاستعمار اليونانى في ذلك العهد، ولكن الأقباط رفضوا هذا البطريرك الدخيل الحاكم، واستمر ولاؤهم لبطريركهم القبطى المُطارَد حفاظًا على عقيدتهم المستقيمة في طبيعة السيد المسيح، وعلى وطنيتهم الصادقة نحو مصر الحبيبة.
6- كذلك حينما حاول بعض الأجانب عرض حماية الأقباط كأقلية، رفض الأقباط في إباء وشموخ، وقال البابا بطرس الجاولى قولته الخالدة، لقنصل روسيا، حينما جاء يعرض حماية الأقباط:
- أيموت قيصركم؟.
- نعم، يموت كسائر البشر.
- أما قيصرنا فلا يموت.
وهكذا ذهب القنصل الروسى، يجر أذيال الخيبة، إذ فوت البابا القبطى عليه فرصة التدخل الروسى في شؤون مصر.. حدث هذا في القرن العشرين.
7- كذلك حينما حاولت الإرساليات الأجنبية التسلل إلى مصر تحت مظلة الاستعمار الفرنسى والإنجليزى، وقفت الكنيسة القبطية شامخة، تتمسك بمصريتها، وتراثها، وأرثوذكسيتها، معطية أعظم المثل في الحفاظ على الوحدة الوطنية، والكنيسة الأم، التي أسسها مارمرقس في مطلع المسيحية.
8- في كفاح المصريين ضد الاستعمار الإنجليزى، كان للأقباط دور يفوق نسبتهم العددية، سواء الوفد المفاوض، أو دفع تكاليف النضال، من نفى وسجن وتعذيب.
9- في ميادين الجهاد الوطنى المختلفة، كان الأقباط مع إخوتهم المسلمين، في كل موقع من مواقع العمل الوطنى، حربًا وسلمًا، يناضلون في سبيل بناء مصر الحديثة الحرة. وقد تعاقبت المحن والحروب، وقدم الأقباط مع إخوتهم المسلمين شهداء أبرارًا، وكتبوا معًا أعظم ملاحم البطولة والتضحية.
10- ومازال الأقباط يجاهدون مع إخوتهم المسلمين في سبيل الوحدة الوطنية، مكافحين أمام فكر دخيل، وتيار وافد، ليس من طبيعة مصر، ولا من روحها، وذلك ابتغاء أسرة مصرية واحدة ووطن متقدم ومزدهر، فالإرهاب مرفوض من كل الأديان.. حمى الله مصر وشعبها، ولربنا كل المجد إلى الأبد آمين.
* الأسقف العام للشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم