خالد منتصر

عندما سألنى المذيع خالد مدخلى على قناة العربية فى برنامجه المتميز «سؤال مباشر» عن خطر العلم الزائف أو المزيف، فكرت للحظة أن الإجابة ستحتاج إلى ساعات وساعات، وفضلت أن أجيبه فى تلك الدقائق المعدودة عن الفرق بين العلم الحقيقى والمزيف فى فلاشات سريعة ومانشيتات مختصرة فى حدود الوقت المتاح، ذلك لأننى حتى أعرف الخطر، لابد أن أميز بينهما، وأعرف كيف أشخص وأكشف العلم الزائف، كما يكشف الجواهرجى الحاذق بين الذهب والفالصو، وكما يتعرف تاجر السيراميك على الفرز الثالث ! بدايةً العلم الحقيقى يقول ربما وأظن ويمكن ونسبة النجاح والشفاء ٨٠٪ أو ٥٠٪ ..الخ، دائماً متشكك، متواضع فى توقعاته، متوجس من إمكانية النجاح، متخوف من التعثر ، يضع يده على قلبه من أن تكون النتائج على غير التوقع ... الخ، وهذا التواضع هو سر نجاحه وتفوقه وقدرته على حل المشكلات، أما العلم المزيف فهو يصرخ بكل ثقة، أكيد، لازم، احنا بتوع كله، ما فيش حاجة بنفشل فيها ...الخ، يبيع الوهم للمستهلك المستعد أصلاً لتقبل هذا الوهم وبلع تلك الخديعة وتجرع ذلك النصب بعقليته المنسحقة والمنصاعة وتفكيره غير النقدى وفقره الشكى، العلم الحقيقى يعتمد على التجربة والملاحظة والاستقراء والمقارنة والتخطئة وضبط النتائج بمجموعات ضابطة ومقارنات إحصائية ودراسات تراكمية سابقة واستخلاصات من مراكز بحثية أخرى متعاونة فى بلاد ومناطق أخرى مشتركة فى البحث ، أما العلم المزيف فيعتمد على سلطة ، متكئاً على داعم ينفخ فيه ويثبته ويدفعه للأمام ويفرضه على الجمهور.

هذه السلطة دينية أو سياسية... الخ، العلم الحقيقى يبدأ بملاحظات وينتهى بنتائج، أما العلم المزيف فيبدأ بالنتائج مباشرة!! يغازل الشارع بإعلان نتائج لا وجود لها على أرض الواقع، يبدأ بالنتائج ثم يفبرك لها فيما بعد ملاحظات وتجارب، يخبرك بأنه وجد أن الاعتكاف يعالج الصداع، وعند سؤاله كيف لاحظت ذلك، أين جربت؟ هل العيادة هى مكان تجربة بحثية؟ هل قارنت بمجموعة ضابطة؟ ما هى أنواع الصداع التى اشتغلت عليها؟...الخ لايوجد عنده إلا رد واحد، هل تشك فى قدرة الاعتكاف يا فاسق؟، ثم يتهمك بالالحاد ويطلب تطبيق حد الردة عليك! بالرغم من أنك مجرد شخص يسأل عن الضوابط العلمية، يصرخ فى الفضائيات، صلاة الفجر تشفى الجلطة، وعندما ترفع أصبعك تريد مزيداً من التوضيح وعرض أسئلتك، يصرخ فيك هل أنت علمانى يا ولد؟! فتقول أنا أحترم صلاة الفجر، ولا يوجد عندى أى اعتراض أو امتعاض من أى طقس دينى، لكن اعتراضى الوحيد هو فى تسويق الطقس الدينى على أنه علاج طبى، وأنت تعرف أننا فى عصر الطب القائم على الدليل، وأنا أطلب أدلتك الطبية، وأسأل هل الجزيرة اليابانية التى عليها أطول الناس عمراً على كوكب الأرض، يعرف أهلها صلاة الفجر؟، مجرد سؤال، لكن إجابة الطبيب المروج لتلك المقولة هى نفس الإجابة التى تطلق رشاش نفس الاتهامات!، العلم الحقيقى صاحبه يعمل داخل المعمل ولا يهتم بما يحدث فى الخارج، لا يحب الضوضاء، يعشق الهدوء، يركز فى الخطوات والمقارنات والمستقبليات وكيف يكتب البحث ويصيغه وينشره ويتناقش مع أساتذة التخصص ... الخ، لكن صاحب العلم المزيف دائما ما يبحث عما هو خارج المعمل، دائما يشكو، أنا أتعرض لمؤامرات ، فى أمريكا سرقوا بحثى، هناك عصابات مافيا تريد اختطافى وإجبارى على كشف سر البحث لسادتهم، ويظل هذا العالم المزيف يرغى ويزبد معلنا «أنا ستين عتريس فى بعض»!، العلم الحقيقى مثل الزواج يجب فيه الإشهار، لا يعرف الزواج العرفى أو السرى، يعشق الشمس والنور، شرطه العلانية والنشر فى مجلة علمية محكمة أو مؤتمر علمى دولى، العلم المزيف يعشق السرية والغموض والمراوغة والاستغماية، يقول العالم الزائف (أنا بحثى فى الدرج ، فى الخزانة، مغلق عليه بستين قفل ومزلاج، وموضوع فى صندوق داخل صندوق، ويحرسه مائة بودى جارد)، العلم الذى يراوغك بالأسرار ليس علماً بل دجل، العلم الحقيقى يبنى على ملاحظات الواقع، العلم الزائف يبنى على نصوص دينية أو تقارير سياسية أو إشاعات فيسبوكية ...الخ.

فالعلم الحقيقى لاحظ أن لحاء شجر الصفصاف يسكن الألم، بدأت الأبحاث بطريقة فارماكولوجية منضبطة وتم اختراع الأسبرين المستخلص منه، وبعدها حددنا الجرعة التى تستخدم كمسكن لوجع العظام أو الصداع ..الخ، والجرعة التى تستخدم كأسبرين أطفال لمرضى القلب ، لكن العلم الزائف يقول لك الرجل المبروك قال كذا، أو السياسى المشهور أخبرنا بكذا .. الخ، ويبدأ يبنى على تلك الأقوال اعتماداً على شهرة فلان، أو سطوة علان، أو انتشاره، العلم يا سادة يجيب عن سؤال كيف نفهم العالم وليس كيف نتمناه؟ العلم محايد، لا يداعب رغباتك، بل هو أحياناً يصدمك ويشدك إلى الأرض من سماء أحلام يقظتك.

نقلا عن الاهرام