فاطمة ناعوت
هذا أبى الذي فقدتُه مثل يوم أمس ١٣ أغسطس. منذ طفولتى غرس فىَّ أبى المثقفُ المتصوفُ أن أحبَّ جميع الناس دون تمييز ودون سبب لأن كراهية أىّ إنسان مختلفٍ عنى في الدين أو الطبقة أو العِرق غباءٌ وانحطاطٌ أخلاقىّ وضعفُ إيمان بالله. علّمنى أبى أن أختصمَ، ولا أكره. أن أختلفَ في الرأى، ولا ألعن. أن أُساجلَ خصومى فكريًّا، ولا أدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. علّمنى أبى أن أدعو بالشفاء لخصيمى إن مرِض، وأن أدعو بشفاء كل مرضى الدنيا. وإن رحل شخصٌ كنتُ أسمع أبى يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، اللهم ارحمه وارحمْ موتى العالمين. علمنى أبى ألّا أتمنى الشرَّ لأى كائنٍ حىّ، ولو آذانى لأن القوة في العُلوّ والنبل والغفران، لا في التصاغر والخسّة والانتقام. علمنى أن أقولَ: «سلامًا» لمَن لا يستحقُّ المجادلة لكى أكون من «عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا». علمنى أن أساجل الأقوياء، لا الضعفاء والموتى، فالضِعافُ لهم المساعدة، والموتى لهم المغفرة. علّمنى أبى أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله، وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا لأن الله تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا كما في الحديث القدسى: «يا عبادى إنّى حرَّمتُ الظلمَ على نفسى، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا». علمنى أبى أن مَن يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخرُ دائمًا بأن «جهاز الكراهية» في داخلى مُعَطلٌ منذ ميلادى، ولا أسعى إلى إصلاحه. وأشكرُ الله أننى لم أقبض على نفسى أبدًا مُتلبّسةً بجرم الدعاء على أحد بالشر، مهما ظُلمت؛ وكم ظُلمتُ طوال حياتى!. فقط أدعو اللهَ بأن يفصلَ بينى وبين الظالمين وأن يكشف كيدَ الكَذبة المفترين. هذا أبى الذي غرسَ في قلبى وعقلى قيمَ المحبة والعدل والجمال، وعلّمنى ألّا أبغض لأن البغض خسّة وصغر.

هذا هو أبى المتصوف الجميل الذي حفظ القرآن كاملًا، وكان يؤذنُ للصلاة في المسجد بصوته الجميل، واحترمَ وعلّمنى أن أحترمَ جميع العقائد؛ لأنها سعىٌ إنسانىٌّ نبيل لمعرفة الله وبحثٌ دؤوبٌ عن الخالق العظيم. أحسن اللهُ مُقامَك يا أبى في فردوس الله الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم نبيلة جعلتنى أحيا في حال سلام روحى، رغم أن فاتورة محبة «جميع الناس» باهظةٌ ومُرّة، فأنْ تُحبَّ «جميعَ» الناس يعنى أنْ يحاربَكَ «معظمُ» الناس!، لكننى سأظلُّ في درب المحبة غير المشروطة؛ لأن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلى أهمُّ من حُكم الناس على الناس وهم لا يعلمون. ولهذا قال الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه». ومحبةُ الناس حقٌّ لأن الله أحبَّ جميع خلقه، وهو الحق.

كان أبى الجميل يُجلسنى على ركبتيه ويقرأ لى قصص الأنبياء. وعلّمنى القرآنَ وضبطَ مخارج الكلمات. وكان أبى يعشقُ الطربَ الأصيل، فيُدير جهاز تسجيل جروندج Grundig فيُشيعُ في أرجاء البيت صوت «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«فهد بلان» و«صباح»، أولئك عشقهم أبى وأورثنى عشقهم. وكان أبى وأمى يعشقان القرآن بصوت العظيمين: «المنشاوى» و«عبدالباسط»؛ فورثتُ عنهما عشقَهما. وكان أبى يحبُّ «فؤاد المهندس وشويكار»، ويتباهى بما لديه من ثروة قيّمة من مسرحياتهما مسجّلة على أسطوانات. وكان دائمًا يقول إننى أشبه «شويكار». وذات يوم، قامت أمى بمسح جميع ما سجّل أبى من مسرحيات وأغانٍ من الأسطوانات لكى تسجّل عليها دروس الإنجليزية الذي كان «مستر وليم» يعطيها لى ولشقيقى!، وحين اكتشف أبى تلك «الجريمة» حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصام أبى كان يذوبُ بابتسامة. وكان خفيف الظل؛ حين تشترى أمى فستانًا جديدًا وتسأله عن رأيه؛ كان يقولُ ضاحكًا: «الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللى ورا السد!»، وحين اكتشفتُ أننى عسراء «شولة»، أي أكتبُ وآكل بيدى اليسرى، وبدأ زملائى في المدرسة يضحكون لأننى عاجزة عن الكتابة مثلهم بيدى اليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّنى إلى صدره، وقال: «هذا تميّز، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى.. آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، داڤنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وأعلنت منظمةُ Mensa، التي تضمُّ أذكياءَ العالم، أن معظمَ العُسر ذوو نسبة ذكاء مرتفعة». ويقولُ العِلمُ إن چين LRRTM1 في المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم في نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. رحمك الله يا أبى الجميل وأحسن مُقامك في عِلّيين.
نقلا عن المصرى اليوم