فاطمة ناعوت
بالأمس، كنتُ جالسة على الرصيف أمام بيتى تحت وهج الشمس الحارقة أملأ بالمنفاخ إطارات دراجة ابنى المتوحّد «عمر»، وأحاول إصلاح المقعد المكسور. كنتُ أتصبَّبُ عرقًا وعظام كفى اليسرى المُجبّرة بالضمادات تؤلمنى أشدَّ الألم بسبب شرخ فى الأصابع بعد حادث. وأنا فى تلك الحال الصعبة، وصغيرى يستحثُّنى على إصلاح دراجته، التى هى متعتُه الوحيدة فى الحياة تقريبًا بالإضافة إلى السباحة والرسم، إذا بفرد الأمن الخاص بالمجموعة السكنية يتقدّم نحوى قائلًا: (صباح الخير يا أستاذة. «عمر» ابن حضرتك طيب، بس بيعمل مشاكل كل يوم مع السكان لما بينزل يركب العجلة!). انزعجتُ ونظرتُ للأعلى نحوه متسائلة وقلبى يخفق هلعًا، فاستأنف قائلًا: (بيبتسم للناس!، وامبارح كان فيه راجل هايضربه عشان «عمر» ابتسم لمراته!، افتكره بيعاكسها!، بس أنا جريت عليه، وأنقذته، وفهمته إن «عمر» تَعبان!)، ولم أدرِ بنفسى إلا والدموعُ تنهمرُ من عينى كالمطر، وقلت لفرد الأمن: (يعنى ابنى متهم بالابتسام فى وجوه الناس!)، قال الشابُّ الريفىُّ ببراءة: (أيوة. عشان بيضحك لناس ميعرفهمش يا أستاذة!، ولولا وجودى كان الرجل قطّعه ضرب!).
دعونى أخبركم ببضع حقائقَ قبل تقديم عريضة دفاعى عن ابنى «المتهم بالجرم المشهود: الابتسامُ فى وجوه الناس». أنا لا أفارقُ ابنى مطلقًا. أرافقُه فى كل مكان، النادى، تمارينه الرياضية، وجميع أنشطة يومه. وهو يرافقنى فى ندواتى ومحاضراتى وأسفارى. ووقت ركوبه دراجته أقود دراجتى ونتنزه معًا فى الحدائق. وبسبب الشرخ فى كفى الأيسر، وأنا «عسراء» بالمناسبة، لم أستطع مرافقته فى الفترة الأخيرة؛ ولأننا نسكنُ فى «الرحاب» فى منطقة هادئة، أكونُ مطمئنة عليه بنسبة ١٠٠٪. ولم يدُر بخلدى أنه يرتكبُ فى غيابى جريمة: «الابتسام فى وجوه الناس!!»، كيف يجرؤ أن ينفّذ وصية الرسول (ص) حين قال: «تبسُّمُك فى وجه أخيك صدقة»؟!، كيف لا يتجهَّمُ ويُكشِّرُ ويعبسُ فى وجوه الناس حتى يطمئنَ إليه الناسُ؟!.
قبل أن أقدم عريضة دفاعى عن ابنى المتهم، دعونى أخبركم بأننى قبل عشرين عامًا كتبتُ مقالًا عنوانه: «رُدّ لى ابتسامتى»، تساءلتُ فيه عن سرّ توجّسنا من «الآخر». فى الغرب، مستحيلٌ أن تلتقى عيناك بعينى شخص آخر فى الطريق دون أن يبتسمَ لك، ويومئ لك برأسه كتحية. الفلسفة: شخصان غريبان لا يعرفُ أحدُهما الآخر، يسيران فوق كوكب الأرض، تصادفَ أن التقت عيونهم للمرة الأولى، وربما الأخيرة، فى لحظة زمنية بعينها؛ فلِمَ لا يبتسمان لبعضهما البعض؟!. أحبُّ هذه اللفتة الإنسانية وأطبقَّها طوال حياتى. وأنا لست مريضة «توحد»، بل أحب جميع البشر. ولستُ أدرى إن كان ابنى قد ورث منى هذا الطبع، أم طيف التوحد جعله نقيًّا راقيًا محبًّا لجميع البشر!، وعجبًا: الابتسامُ فى وجوه الناس جريمةٌ فى قريتنا الظالمة!، جّرب أن تبتسم للمارّة وسوف يرمقونك بتوجّس! ابتسم لرجلٍ، سيُسىء فهمك!. ابتسم لامرأةٍ ستصرخ بأنك متحرش!. دعك من الرجال والنساء؛ وامنح ابتساماتك للأطفال، فهم ملائكة الله على الأرض. ولا تندهش إن لم يرد لك الأطفالُ ابتسامتك!، ذاك أن أهلهم قد علّموهم أن البشرَ ذئابٌ تخطفُ الصغار. أمرٌ محزن أننا قد شوّهنا «الكود الإنسانى» الفطرى لدينا على هذا النحو القاسى. ابنى المتهم «عمر» هو ابن الفطرة السوية الطيبة كما خلقها الله، فدعونا نتعلم منه.
أيها العالَمُ الطيب الذى يُدينُ الابتسامَ ويُرحّبُ بالعبوس والشجار والتنمّر، لن أدافع عن ابنى الجميل، بل أرفعُ فى وجوهكم إصبعَ الاتهام. الدولةُ لا تقومُ بدورها الينبغى لتوعية الناس بأبناء «طيف التوحّد» Autism، أولئك الملائكة الذين يعيشون بيننا ونحن عاجزون عن استيعاب نقائهم وملائكيتهم وصفاء قلوبهم، تلك التى لا تعرفُ قوانيننا الهزلية مثل: «ابتسامك فى وجه مَن لا تعرف معناه بتعاكسه!». ياللمراهقة الفكرية!. أشيرُ بإصبع الاتهام فى وجه بعض برامج الإعلام الذى يهتم بالتفاهات بدلَ أن يقدّم التوعية بأبناء التوحد الذين يزداد عددُهم يومًا بعد يوم!. أرفعُ إصبعَ الاتهام فى وجوه آباء وأمهات أطفال التوحد الذين يخجلون من أبنائهم فيحبسونهم فى البيوت بدل أن يخرجوا بهم فى كل مكان، كما أفعلُ أنا مع ابنى «عمر» بكل فخر وفرح، فيزيدون من جهل المجتمع بهذا «المرض»، إن صحّ أن نسميه مرضًا، وهذا غير صحيح. إنما هو اضطرابٌ لم يستطع الطبُّ النفسى حتى اليوم معرفة سببه ولا علاجه. أرفعُ إصبعَ الاتهام فى وجه كل مَن قرأ ولم يهتم بنداء الكيميائى-الحيوى المصرى الكندى «رامز سعد» فى إنشاء «مدينة الأحلام» لرعاية المتوحدين، وسوف أحدثكم فى مقال قادم بالتفصيل عن هذا المشروع النبيل. أشيرُ بإصبع الاتهام فى وجوه المدارس «الاستثمارية» الخاصة بالمتوحدين، والتى لم أستطع إلحاقَ ابنى «عمر» بها لأن مصروفاتها تزيد على ١٥٠ ألف جنيه سنويًّا!!. وأرفعُ إصبعَ الاتهام فى وجه الحكومة المصرية التى لم تنشئ حتى اليوم مدرسة لأبناء التوحد بالمجان. ابتسم يا «عمر» فى وجه الحياة، ولا تعبأ بأبناء العبوس
نقلا عن المصري اليوم