مفيد فوزي'>حنان مفيد فوزي
لنكن صرحاء مع أنفسنا، فالصراحة راحة، والراحة غنيمة، نحن معشر كُتّاب صفحة الرأى والأعمدة المجاورة نتدفق سطورًا يومية تحمل المعلومة والأطروحة والعبرة، وقد تصل أحيانًا إلى نتائج صائبة بناءً على خلاصة كل ما سبق، لكن السؤال هو: مَن يقرأ!؟ مَن يتابع!؟ وهل يتساوى الجهد مع المردود!؟ والإجابة هى أن الأغلبية لا تقرأ.
بل تمل من متابعة الأكلشيهات وتميل أكثر إلى جرعة السوشيال ميديا المكثفة السريعة، سواء كانت «بوست» لا يتعدى الـ 50 كلمة، أو فيديو لا يتعدى الـ 50 ثانية.. ولإيمانى الشديد بأهمية المكتوب، لأنه الأشد بقاءً، والأقوى امتدادًا، والأشمل قيمة عن كل ما هو منطوق ومسموع ومُجسم حتى، قررتُ أن أطرح آرائى وأفكارى من خلال حدوتة.
فالحواديت لها مفعول السحر فى جذب انتباه المتلقى واستمرار متابعته سواء كان قارئًا نهمًا أو أسير المشاهدة.. واسألوا مدمنى الروايات المرعبة والمسلسلات المُدبلجة.. ولنبدأ العرض بقصة قصيرة عنوانها «لم يمت أبى»، منقولة من كنوز الأدب القديمة، وهى رسالة موجهة لجيل كامل من الأبناء، عَلّهم يتفهمون:
يقول أحدهم عن أبيه: «كان أبى إذا دخل غرفتى ووجد المصباح مضاءً وأنا خارجها يقول لى: لِمَ لا تطفئه ولِمَ كل هذا الهدر فى الكهرباء؟ وإذا دخل الخلاء ووجد الصنبور يقطر ماءً يقول بعلو صوته لِمَ لا تُحكم غلقه قبل خروجك ولِمَ كل هذا الهدر فى المياه؟.. دائما ما ينتقدنى ويتهمنى بالسلبية، يعاتبنى على الصغيرة والكبيرة، إلى أن جاء يوم ووجدت وظيفة، اليوم الذى طالما انتظرته، اليوم سأجرى المقابلة الشخصية الأولى فى حياتى للحصول على وظيفة مرموقة فى إحدى الشركات الكبرى.
وإن تم قبولى فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة وسأرتاح من أبى وتوبيخه الدائم لى.. وفعلًا، استيقظت فى الصباح الباكر ولبست أجمل الثياب وتعطرت وهممت بالخروج، فإذا بيدٍ تربت على كتفى عند الباب، التفتُ فوجدت أبى مبتسمًا رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه، وناولنى بعض النقود، وقال لى: أريدك أن تكون إيجابيًا واثقًا من نفسك ولا تهتز أمام أى سؤال، تقبلت النصيحة على مضضٍ وابتسمت وأنا أتأفف من داخلى، حتى فى هذه اللحظات لا يكفّ عن النصائح وكأنه يتعمد تعكير مزاجى فى أسعد لحظات حياتى.
خرجت من البيت مسرعًا، واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة، وما إن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجبت كل العجب، فلم يكن هناك حرّاس عند الباب ولا موظف استقبال، سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة، ولاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحد، فتذكرت نصيحة أبى لى عند خروجى من المنزل بأن أكون إيجابيًا.
فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيدًا، ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التى كانت تطفو من أحد الأحواض الذى امتلأ بالماء الى آخره، فتذكرت تعنيف أبى لى على هدر المياه، فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته فى حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة إلى حين عودة البستانى، ثم دخلت مبنى الشركة متتبعًا اللوحات.
وخلال صعودى على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن فى وضح النهار، فقمت لا إراديًا بإطفائها خوفًا من صراخ أبى الذى كان يصدح فى أذنى أينما ذهبت، إلى أن وصلت إلى الدور العلوى، ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة، قمت بتسجيل اسمى فى قائمة المتقدمين.
وجلست انتظر دورى وأنا أتمعن فى وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتنى أشعر بالدونية من هيئتى أمام ما رأيته، الكل يتباهى بشهاداته ومكانته، ورغم ذلك لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج فى أقل من دقيقة، فقلت فى نفسى: إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد رُفضوا فهل سأقبل أنا؟!، فهممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتى.
وبالفعل، انتفضت من مكانى وقبل الخروج نادى الموظف على اسمى، فقلت أمرى إلى الله ودخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسى فى مقابل ثلاثة أشخاص نظروا إلىَّ وابتسموا ابتسامة عريضة، ثم قال أحدهم: متى تحب أن تتسلّم الوظيفة؟!، فذهلت وظننت أنهم يسخرون منى، وهنا تذكرت نصيحة أبى لى بألا أهتز وأن أكون واثقا من نفسى، فأجبتهم بكل ثقة: سوف أتسلم الوظيفة حين أجتاز الاختبار بنجاح إن شاء الله، فقال آخر: لقد نجحت فى الامتحان وانتهى الأمر. فقلت: ولكنّ أحدًا منكم لم يسألنى سؤالًا واحدًا!.
فقال الثالث: نحن ندرك جيدًا أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أىٍّ من المتقدمين، لذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليًا، فصممنا مجموعة اختبارات عملية تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التى يتمتع بها ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذى سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه فى طريق كل متقدم.
وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وُضعت فى كل أروقة الشركة. وفجأةً، اختفت من أمامى كل الوجوه ولم أعد أرى إلا صورة أبى، ذلك الباب الكبير الذى ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والحب والطمأنينة، وشعرت برغبة جامحة فى العودة إلى البيت وتقبيل يديه وقدميه. وبالفعل، جريت لكى أبشره بالوظيفة.. وعند باب الدار، رأيت أقاربى والجيران مجتمعين ينظرون إلىَّ نظرات عطف.
وفهمت كل شىء، لقد وصلت متأخرًا، لماذا لم أرَ أبى من قبل بوضوح؟! كيف عميت عيناى عنه.. عن العطاء بلا مقابل، عن الإجابة بلا سؤال، عن النصيحة بلا استشارة؟!.. كنت أنت البارَّ بنا ولم تنل البر منا، غبت يا أبى وغاب عنى العقل الرشيد والركن الشديد والسند المتين والناصح الأمين، لكنى أعدك يا أبى حين أنجب من صلبى أبناءً سأحكى لهم عنك حتى لا يكرروا أخطائى، ولن أهدأ حتى تصل حكايتى إلى مسامع الناس عَلّهم يتعقلون فلا يندمون».
نقلا عن المصري اليوم