أحمد الجمال
فى دقائق محدودة وبالصدفة، وجدت الدليل العملى المعاصر الآن لما كنت وما زلت أردده، وهو أن الصدفة أو المصادفة تكمن من وراء بعض أحداث التاريخ، وتكمن أيضًا من وراء كشف الحقيقة وتبديد كل ركام إخفائها، ثم- وبالتبعية- تكمن من وراء إنصاف مظلومين دفعوا أثمانًا فادحة على كل مستويات حياتهم وأسرهم، وإدانة الذين ظلموهم.
كانت الدقائق هى الوقت الذى استغرقه ضيف الزميل نشأت الديهى، وقد ذكرت فى مقال الأسبوع الفائت أن الضيف عمل فى النيابة العامة حتى قمتها وعين محافظًا مرتين، وهو الآن يساهم فى الحياة العامة ويحظى بود واحترام كثيرين.. حكى الضيف ما اعتبره انفرادًا يهديه للبرنامج وصاحبه، وذكر أنه فى عام 1971 عين الرئيس السادات المستشار ماهر حسن نائبًا عامًا ليحل محل المستشار على نور الدين، وقال الضيف إن السادات أقال نور الدين بسبب عبث جرى فى خزنة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر.. ورغم أنها عبارة سريعة وردت على لسان الضيف إلا أنها قضية خطيرة ظلت لغزًا حتى الآن، وارتبطت بها مجموعة من الأسئلة، مثل من فتح الخزنة ولماذا وماذا أخذ منها، وماذا كان يحدث لو أن أحدًا من أسرة الرئيس عبد الناصر تصادف وكان موجودًا وقت العبث بالخزنة؟، وبالطبع فإن لدىّ بعض الإجابات ولكنه ليس وقتها.
ثم استطرد الضيف بأن النائب العام كلفه بالتحقيق مع المتهمين من كبار المسؤولين الذين اتهمهم رئيس الجمهورية أنور السادات بأنهم دبروا مؤامرة لقلب نظام الحكم، وسمّاهم مراكز القوى، وبدأ التحقيق فى مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وبعد فترة اتصل النائب العام بالمحقق وسأله عما فعل، فأجابه بأنه انتهى من التحقيق وتوصل إلى أنه لا توجد قضية من أساسه، وأن المتهمين لو قدموا للقضاء العادى فسيحصلون على البراءة من أول جلسة.. ثم يستطرد بأن النائب العام ماهر حسن قال له: لن أستطيع إبلاغ الرئيس بذلك.. تعال معى لتبلغه بنفسك.. وأنهما توجها لاستراحة الرئيس فى القناطر الخيرية، واستقبلهما وحكى له المحقق ما توصل إليه من أنه لا توجد قضية قلب نظام الحكم. فسأله الرئيس عن التهمة التى يمكن أن توجه إليهم فأجابه المحقق- الذى هو ضيف البرنامج- بأنه يمكن توجيه تهمة الضغط على رئيس الجمهورية وعقوبتها من 3 سنوات إلى 15 سنة.. فرد الرئيس مندهشًا صائحًا: «بس».. وإذا بالرجل المحقق يقول للرئيس إن الحل هو أن يفعل معهم مثلما فعلته ثورة يوليو مع رجال العهد الملكى، ويتم تشكيل محكمة خاصة يترأسها حافظ بدوى، رئيس مجلس الأمة، ويمثل الادعاء فيها مصطفى أبو زيد فهمى.
ويحكى المحقق أن الرئيس تهلل وصاح مخاطبًا إياه «برافو يا ولد».. وخلال الحوار فى البرنامج كان الضيف يضيف بعض التعليقات على مسار الحوار بين السادات وبينه، متندرًا على طريقته فى الكلام، ومؤكدا أنه ابتلع حكاية «يا ولد» حتى ينتهى الموقف!.
كنت، بعدما شاهدت وسمعت الحوار، قد أعددت عدة مقالات أنتقد فيها ذلك الرجل، وبعد مرور الوقت تحولت الانتقادات إلى تأمل وتساؤلات، منها: ترى هل هذا الاعتراف الذى تأخر لمدة 52 سنة هو تكفير عن خطأ ارتكبه رجل قضاء، أم هو رد اعتبار لكل من اتهموا وحوكموا أمام محكمة من خارج النظام القضائى ونالوا أحكامًا كان منها الإعدام الذى خفف للمؤبد نزولا إلى 15 سنة وعشر سنوات إلى آخره؟، أم هو كشف لزيف ما وصف أنه ثورة تصحيح وزيف المثقفين الذين نظروا وقعروا وكتبوا عن نظرية السادات فى الاشتراكية الديمقراطية؟، أم هو كل ذلك وغيره مجتمعًا؟.
أتساءل، وفى ذهنى حالة رجل مثل السيد محمد فائق، الذى كان آنذاك فى عمر 41 سنة ووزير إعلام، ومن قبلها هو المسؤول التاريخى عن تحرير القارة الإفريقية، وله أسرة فيها طفلان ثم يحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ثم يرسل السادات من يساومه ليكتب التماسًا واسترحامًا واعتذارًا ليخرج ويصبح أغنى من وجيه أباظة، ويرد الرجل بأنه لم يرتكب أى جريمة ولا خطأ، وأنه لن يعتذر عن شىء لم يفعله، ويكمل المدة ويخرج ليعتقل بعدها بأسابيع فى حملة سبتمبر 1981 التى انتهت بمصرع الرئيس، يعنى دخل السجن فى عمر الواحد والأربعين عامًا وخرج فى عمر الثانية والخمسين!.
وقس على ذلك ما جرى للسادة على صبرى وشعراوى جمعة وسامى شرف ومحمود السعدنى وفريد عبد الكريم وأمين الغفارى ومحمد عروق ومتولى النمرسى، وغيرهم بالمئات، من سجن وتشهير وقطع للرزق وحصار وأضرار أخرى على كل المستويات.
هل صحا ضمير الرجل فجأة وقال ما من شأنه تصحيح كامل لتاريخ المرحلة التى رفعت فيها شعارات العلم والإيمان، ودولة المؤسسات وسيادة القانون وتقاليد القرية والعائلة؟، وهل سيجد هذا الاعتراف سبيلًا إلى رسائل الماجستير والدكتوراه فى علم التاريخ؟، وهل سينكر أحد بعد ذلك دور الصدفة فى الأحداث وفى الكشف عن الحقائق؟، وأخيرًا لماذا لم يفعل ذلك المحقق- ومعه النائب العام- مثلما فعل محمد بك نور وحكيم منير صليب، فيتخذ قرارًا بحفظ القضية إداريًا لأنه لا جريمة؟
نقلا عن المصرى اليوم