سمير مرقص
(1) تطور الكتابة التاريخية الوطنية
الكتابة التاريخية الوطنية المستقلة الحداثية ارتبطت بانطلاقة الدولة الحديثة المصرية وذلك على يد «الطهطاوى» المؤسس للإطار القيمى والفكرى لها. لذا نراه يعيد قراءة تاريخ مصر منذ القدم زمن الفراعنة، والفترة القبطية تحت حكم الرومان حتى قبل الإسلام واضعًا منهجًا جديدًا لفهم مصر المكان والزمان يختلف جذريًّا عن منهج مؤرخى ما قبل الدولة الحديثة. فلقد أدرك «الطهطاوى المؤسس» أنه لابد من دراسة الحضارة المصرية والمدنيات اللاحقة التى وفدت على مصر ومن ثم تاريخ مصر الحديث. ولعل ما أنجزه الطهطاوى يعد الأساس لمدرسة التاريخ الوطنى التى سار على نهجها: «محمد صبرى السوربونى» (1894 ــ 1978)، و«محمد شفيق غربال» (1894 ــ 1961) الذى بلور الأساس الفلسفى لمدرسة التاريخ المصرى فى كتابه المعتبر الصغير «تكوين مصر» (1957). وبفضل هؤلاء وغيرهم تبلورت المدرسة القومية المصرية فى التاريخ: الحرة والأكاديمية. وتنوعت المقاربات التاريخية بفعل التطور فى المناهج التاريخية وانعكس ذلك فى كثير من الإبداعات التاريخية. ومن ثم أبدعت مدارس التاريخ المصرية الوطنية المؤسسية وغير المؤسسية؛ فقد اجتهدت فى إبداع كتابة تاريخية قومية تضع الأحداث والوقائع والشخصيات التاريخية فى ميزان العلم من منطلق أن التاريخ هو نتاج عملية/عمليات معقدة ومتداخلة ومتقاطعة للاقتصادى، والاجتماعى، والسياسى، والثقافى... وعلى هذا المنوال تطورت الكتابات التاريخية التى تناولت الأقباط.
(2) تطور الكتابات التى تتناول الأقباط
فى مقدمتنا الدراسية لكتاب: «أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى 1922»، الذى ألفه الكاتب السورى الأصل «جاك تاجر» (1918 ــ 1952)، الذى صدر فى سنة 1951، قمنا بتتبع التطور الذى مرت فيه الكتابات التى تناولت الأقباط فرصدنا ست مراحل أو ستة أنواع من الكتابات التاريخية كما يلى: أولًا: الكتابة الدينية: حيث التأريخ يتم من خلال تاريخ الكنيسة كما فى: تاريخ بطاركة الكنيسة لساويرس بن المقفع وكتاب الأب فاولر. ثانيًا: الكتابة السردية حيث ينحو الكاتب إلى الأخذ بطريقة السرد التاريخى للوقائع من خلال علاقة الحاكم بالكنيسة أو تاريخ البطاركة أو بالأمرين معًا وقد تمثلت هذه الكتابات فى تاريخ الأمة القبطية ليعقوب نخلة روفيلة وتاريخ الأمة القبطية لبوتشر، وغيرهما. ثالثًا: الكتابة الأكاديمية الأجنبية والوطنية وهى تلك الكتابات التى ولدت فى الأروقة الجامعية واتبعت المناهج العلمية التاريخية البازغة فى القرن العشرين. ففى وقت متزامن- تقريبًا، منتصف الأربعينيات- صدر الكتاب الأشهر لترتون الأستاذ بجامعة لندن، «أهل الذمة فى الإسلام»، الذى ترجمه الدكتور حسن حبشى فى سنة 1967. وفى مصر أصدرت الأستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف كتابها المرجعى التأسيسى «مصر فى فجر الإسلام: من الفتح العربى إلى قيام الدولة الطولونية» ثم قاسم عبده قاسم الذين درسوا الأقباط كأهل ذمة. ونشير هنا إلى أطروحة «محمد عفيفى» الذى حرر الأطروحات الجامعية حول الأقباط من وصفهم بأهل ذمة فدرس حال الأقباط فى العصر العثمانى. رابعًا الكتابة من منظور الجماعة الوطنية وهى كتابة تعد امتدادًا للكتابة الأكاديمية، ولكنها تجاوزت النظرة للأقباط باعتبارهم «أهل ذمة»، إلى أنهم مكون من مكونات الجماعة الوطنية. كما تم تناول تاريخ الكنيسة من خلال دورها فى المجال الوطنى وانعكاساته على واقع الجماعة الوطنية المصرية. وهنا تأتى كتب: وليم سليمان قلادة «الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية» (1968)، وطارق البشرى «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» (1981)، ومصطفى الفقى «الأقباط فى السياسة المصرية: مكرم عبيد ودوره فى الحركة الوطنية». خامسًا: الكتابة المجتمعية/السياقية التى قرأت حركية الأقباط المجتمعية من خلال منهج التحليل الاقتصادى/الاجتماعى وتأتى كتابات أبو سيف يوسف ونادية رمسيس فرح وعاصم الدسوقى ورؤوف عباس فى هذا المقام. سادسًا: الكتابة متعددة مستويات المقاربة والتحليل والتى بدأت تأخذ فى الاعتبار الدراسات المقارنة والتحولات الدولية والاقتصادية وتأثيرها على العلاقات والتفاعلات بين مكونات الجماعة الوطنية وإشكاليات مثل: تأثير العولمة على الدولة القومية، المواطنة بأبعادها، جدل الاندماج والعزلة، ويمثل هذه الكتابات نبيل عبدالفتاح وكاتب هذه السطور، وغيرهما.
(3) التمييز المنهجى للشأن القبطى
ويتضح من التقسيم السابق أن تطورًا لحق بمقاربة الأقباط يتسم بملمحين: الأول: تطور دراسة حركية الأقباط فى الفضاءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. الثانى: التمييز بين حركية الأقباط فى الفضاء/الحيز العام المصرى وبين حركيتهم فى الفضاء/الحيز الكنسى الخاص من جهة، كذلك التمييز بين الدراسات التى تتناول الأقباط عامة وبين تلك التى تتناول الديناميكية الداخلية للمؤسسة الكنسية خاصة؛ ما أنتج تمييزًا منهجيًّا للشأن القبطى.. ولكن.. نواصل.
نقلا عن المصرى اليوم