عاطف بشاي
«يظل الناس إلى الأبد عاجزين عن إيجاد سبب معقول لصلب (المسيح) أو إعدام (سقراط) أو اغتيال (غاندى)». العبارة السابقة عبرت بها ابنة شقيق الزعيم الهندى «غاندى» عن حياة العباقرة التي تنتهى بمأساة، حيث يرحلون وتبقى عذاباتهم ممزوجة بدهشة عصية على الفهم.. عبثية المصير.. غريبة في تصورها وفى إدراك حكمتها.. ومن هنا يطرح السؤال نفسه: هل لابد أن تنتهى حياة المبدعين بمأساة؟!، وهل المأساة قدَر مكتوب على جبين كل عبقرى؟!، لماذا يزداد مؤشر الآلام في الغالب لدى المبدع تحديدًا، فيصل بصاحبه إلى المأساة مهما تعددت أشكالها.. انتحار.. جنون.. اغتيال.. اكتئاب مدمر «مرض عضال»؟!.
تشكل هذه الأسئلة الملغزة محتوى كتاب للصحفى القدير «أيمن الحكيم»، هو «المشهد الأخير»، صاغ صفحاته برشاقة وأسلوب بالغ العذوبة يقطر شجنًا وأسى.
يتناول الكتاب كما تشير عناوين موضوعاته «أسمهان» عاشقة الحياة والموت، «صلاح جاهين».. الحزين الذي أضحك طوب الأرض.. «سعاد حسنى» وكل الطرق تؤدى إلى الانتحار.. «كلام جديد عن مأساة الآنسة (مى)..» أحمد بهاء الدين.. نهاية «عقل جبار».. «محمد فوزى».. العذاب فوق ألحان تبتسم.. «عمر خورشيد» شهيد النساء وضحية كامب ديفيد.. «يوسف السباعى».. نهاية مأساوية لفارس الرومانسية.. تحية كاريوكا.. آه يا زمن.. ناجى العلى.. الموت على رصيف الغربة.. عبدالسلام النابلسى.. «شهيد مصلحة الضرائب».. في لقطة مؤلمة.. يكتب «أيمن الحكيم» عن المشهد الأخير لذروة مأساة «تحية كاريوكا»، وهو يرصد مفارقات قدَر قاسٍ وتقلبات زمن ضنين.. وتناقضات حياه عاصفة وأوراق عمر تعكس شقاء البشر. عبث الوجود.. في يوم بارد من شتاء عام (1996) جلست سيدة عجوز بدينة أمام ضريح «السيدة زينب». كانت ترتدى جلبابًا بلديًّا، وتضع على رأسها غطاء أبيض.. وبعد فترة من الشرود بدأت دموعها تنهمر بغزارة وصوت نحيبها يرتفع.. اقتربت منها سيدة طيبة القلب تواسيها.. وتربت على كتفيها.. وكم كانت دهشة السيدة هائلة عندما اكتشفت أن العجوز البدينة التي تنتحب وهى جالسة على الرصيف هي نفسها النجمة الكبيرة «تحية كاريوكا».. التي كانت في أيام مجدها إذا سارت في الشارع تعطل المرور لالتفاف المعجبين حولها.. قامت «كاريوكا»، وحاولت أن تهرب من نظرات الدهشة والشفقة التي امتلأت بها عينا السيدة الطيبة التي لم تعطها فرصة للهرب.. لم يمضِ وقت طويل إلا وقد أدركت السيدة حجم المأساة التي تعيشها الفنانة الكبيرة، فبعد أيام العز والأضواء والمال لا تجد شقة تؤويها.. احتضنتها السيدة في حنان وهى غير مصدقة ما تسمع.. وبكل شهامة وبراءة وصدق عرضت عليها أن تستضيفها في بيتها.. لم تشعر تحية بنفسها وهى تدور في بطء. أخذت تدور بجسدها المترهل في حركات عصبية غير مصدقة ما يحدث لها.. دارت وكأنها تؤدى رقصة البجعة الأخيرة.. وما إن انتهت وسكنت قليلًا حتى احتضنت السيدة الطيبة.. وشكرتها، وانصرفت في هدوء.
■ ■ ■
«عشرات السنين عشتها بين مد وجزر.. في قصور فاخرة وغرف على الأسطح يشاركنى فيها الدجاج. رأسمالى ضخم، ورثته عن أبى، وأضَعْتُه.. ثم استرددته، وأضعته.. دوامة لا تهدأ.. فقر وغنى.. شظف وترف.. ظلام وأضواء.. ربحت وخسرت.. انتصرت وهزمت.. ولكننى لم أسلم سلاحى ولم أخضع للأقدار. وظل المسرح محبوبتى التي ذبت فيها عشقًا منذ أن كنت في السابعة من عمرى.. وقد تضاعف هذا العشق على مر الأيام وتحول إلى وله».
الفقرة السابقة كتبها الفنان الكبير الراحل «يوسف وهبى»، في مذكراته بعنوان: «عشت ألف عام (1889- 1982)»، واستعانت بها الأديبة والإعلامية «راوية راشد» وهى تؤلف كتابًا عنوانه «يوسف وهبى.. سنوات المجد والدموع»، وأهم ما يميز هذا الكتاب أنه يمثل مرجعًا بالغ الأهمية والقيمة من حيث هو بانوراما عريضة لعصر كامل وتاريخ موثق توثيقًا جيدًا لحركة المسرح المصرى منذ نشأته مستعرضًا عددًا كبيرًا من معاصرى «يوسف وهبى» وعلاقته الحميمة بهم، ومنهم «روزاليوسف» «نجيب الريحانى».. «عزيز عيد».. «أمينة رزق».. كما يرصد الكتاب تفاصيل الأحداث المتتابعة في حياة فنان الشعب.. ودلالاتها ومغزاها ومدى تأثرها في مشواره الذي حفره بكفاحه وإرادته الفولاذية، ويعكس الخلفية التاريخية التي تشمل تغييرات سياسية واجتماعية عاصفة.. تجعل من الكتاب نموذجًا رائعًا يتجاوز أنه مجرد متابعة قصة حياة فنان إلى رؤية شاملة يستطيع المتلقى لها أن يجد عالمًا زاخرًا بالبهجة والحكمة والحب والجمال والثراء الفنى.. والكتاب زاخر بالمواقف الإنسانية في رحلة المجد والدموع التي تنسجها المؤلفة برهافة وحساسية وصولًا إلى المشهد الأخير الفاجع في حياة هذا الفنان الكبير.
يصور المشهد خارج المسرح.. حيث كان «يوسف وهبى» يقف إلى جانبه «مختار عثمان» و«حسين رياض» و«فاخر فاخر» و«فتوح نشاطى» و«نجمة إبراهيم» و«زينب صدقى» و«أمينة رزق».. يحمل كل واحد منهم متعلقاته وذكرياته وأحلامه التي تبخرت في الهواء.. بكى «مختار عثمان»، فانفجر الجميع في البكاء.. امتلأت قلوبهم بالمرارة وهم يشاهدون عمال البنك ينزعون اسم «مسرح رمسيس» من واجهة المسرح.. ويضعون الأختام على أبوابه.. ويتمتم «يوسف وهبى»: «اليوم فقط أشعر أنى أدفن كل أحلامى».. لكن حقيقة الأمر- كما تؤكد الكاتبة- أن الأحلام لا تنتهى، ولا تلقى مصرعها.. ربما تتعثر.. تُقمع.. تتهاوى، ثم تنهض من جديد، وتنمو وتزدهر.. خاصة إذا تمتع صاحبها بقوة الإرادة.. وحظى بصداقات مخلصة ونبيلة، فإلى جانب عزيمة «يوسف وهبى».. قامت «أمينة رزق» ببيع مصوغاتها لسداد بعض ديونه، وأسهم كل من «مختار عثمان» و«محمد كريم» بمبالغ مماثلة.
نقلا عن المصرى اليوم