د. ياسر عبد العزيز
ثمة ثلاث حقائق أساسية يجب أن نفتتح بها أى نقاش يخص الحالة التعليمية فى مصر، سواء كان هذا النقاش يخص التعليم قبل الجامعى أو التعليم الجامعى.
والحقيقة الأولى مفادها أن التعليم الجيد مسألة فى غاية الأهمية والخطورة؛ فهو الأساس المتين لأى نهضة مرجوة أو تقدم مطلوب، ومن دونه ستذهب آمال الإصلاح والخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أدراج الرياح.
والحقيقة الثانية تشير إلى توافق عام على أن حالة التعليم المصرية رديئة ولا ترتقى للحد الأدنى من معايير الجودة العالمية، وهذه الحقيقة بالذات ليست مبنية على آراء النقاد والخبراء والمؤسسات الدولية فقط، لكنها تمثل توافقًا نادرًا أيضًا بين الجمهور، وبين الطلاب أنفسهم وأولياء أمورهم.
أما الحقيقة الثالثة فتتصل بأن داء الغش الجماعى، المستشرى فى امتحانات الثانوية العامة خصوصًا، أضحى عاملًا مؤثرًا فى نتائج تلك الامتحانات، وأثر تأثيرًا واضحًا فى مخرجات العملية التعليمية، وأن هذا الأمر ينعكس بالضرورة على قدرة طلاب الجامعة، الذين استفادوا من الغش، على الاستمرار فى مسارهم العلمى، كما يضع بصماته على طبيعة هؤلاء الطلاب فى حال نجحوا فى التخرج فى الجامعات، وراحوا يمارسون المهن التى أهلتهم لها نتائج الامتحانات.
وفى الأسبوع الماضى، تجسدت تلك الحقيقة الثالثة بالذات فى إعلان ثلاث كليات طب مصرية عن نسب رسوب قياسية فى امتحانات السنة الأولى، وقد تراوحت تلك النسب ما بين 60% و80%؛ حيث نجح فى إحدى تلك الكليات طالبان فقط من كل عشرة طلاب خضعوا للامتحان فى الفرقة الأولى، وهو الأمر الذى عزاه المسؤولون الجامعيون إلى تفشى الغش الجماعى فى امتحانات الثانوية العامة بمناطق معينة على مستوى الجمهورية.
إن تفاقم ظاهرة الغش الجماعى يعمق مشكلة التعليم فى البلاد، ويهدد بتقويض ما تبقى من الثقة فى العملية التعليمية، ويهدر موارد إنسانية ومادية ضخمة، ويمكن أن يصنع أزمات جديدة.
ويبدو، للأسف الشديد، أن قطاعًا من الطلاب وأولياء الأمور لا يكترث بما يمكن أن يتعلمه الطالب فى المراحل الجامعية وقبل الجامعية، بقدر ما يهتم بما يمكن أن يحصل عليه من درجات تؤهله لدخول كليات بعينها، بصرف النظر عن مدى استعداده العلمى للدراسة بها.
ونتيجة لذلك، وفى ظل غياب الحس الأخلاقى، فإن بعض الطلاب وأولياء الأمور لا يمانعون فى اجتياز الامتحانات عبر الغش، كما أن نسبة من القائمين على العملية التعليمية وشؤون الامتحانات لا يرسون المعايير والإجراءات اللازمة لضمان نزاهتها، بينما يبدو أن قطاعًا من المجتمع وأفراد الجمهور لا يرون مشكلة فى تفاقم تلك الظاهرة؛ ولا يضعونها على قائمة الأولويات التى تستوجب علاجًا سريعًا!.
لم يعد العالم متوقفًا على فكرة إحراز مجموع كبير فى الثانوية العامة، عبر آليات الحفظ والاسترجاع، أو حتى من خلال الغش، بما يؤهل الطالب للالتحاق بواحدة مما اصطلحنا على تسميتها «كليات القمة»، ولكن ما أصبحنا بصدده الآن ضرورة تطوير برنامج تعليمى حداثى، يُعلم وليس يُلقن، ويؤهل أبناءنا لمسارات عمل مبتكرة وحالة تنافسية جديدة، لم تعد مقصورة على ثنائية الطبيب والمهندس، كما تعودنا على مدى عقود طويلة.
كما أن الاستهانة بقيم تكافؤ الفرص والحرص على الأمانة خلال تأدية الامتحانات، سعيًا وراء الحصول على مجاميع كبيرة تؤهل الطلاب لدخول كليات بعينها، تفقد الامتحان مفهومه ووظيفته، وتفقد الطلاب الثقة والشعور بقيمة الجهد والتفوق، وتحول العملية التعليمية إلى بازار رخيص، ينجح فيه من يمتلك المال أو النفوذ أو يمارس البلطجة.
التحية واجبة للقائمين على تسيير شؤون كليات الطب الثلاث فى قنا وأسيوط وجنوب الوادى، لأنهم أعلنوا بصراحة أن رداءة مستوى الطلاب الراسبين يعود مباشرة إلى نجاحهم فى دخول تلك الكليات عن طريق الغش الجماعى، بالنظر إلى أن تلك النتائج تحققت فى ظل تثبيت معايير وعناصر العملية التعليمية كلها باستثناء الطالب، الذى لم يكن مؤهلًا لدخول تلك الكليات.
ما حدث فى كليات الطب الثلاث المشار إليها يدق جرس إنذار بوضوح، وينبه إلى تفاقم أزمة التعليم فى مصر، وإلى وصولها إلى أوضاع خطيرة، تستدعى تدخلًا على كافة المستويات لضمان عدم ترك امتحانات الثانوية العامة مطية للتلاعب والغش، بكل ما يجلبه هذا من تأثير سلبى فى الثقة العامة، وفى جودة العملية التعليمية، وفى صورة البلاد وأمنها القومى.
نقلا عن المصري اليوم