القمص يوحنا نصيف
    يُعلِّق القدّيس كيرلّس الكبير بكلماتٍ جميلة جدًّا على ما جاء في (لو9: 12-17)، عندما أشبع السيّد المسيح الجموع، من الخمس الخبزات والسمكتين.. فيقول:

    + دعونا نبحث بعناية عن معنى عبارة "اصرف الجموع".. التلاميذ إذ كانوا مأخوذين بالمحبّة نحو الجموع؛ بدأوا يهتمّون بالشعب، كما لو كانوا يمارسون مُقدَّمًا وظيفتهم الرعويّة، لكي نتّخذ منهم قدوة لأنفسنا. لأنّ الاقتراب (من الربّ) والتوسُّل إليه نيابة عن الشعب، هو فِعل لائق بالقدّيسين، وهو واجب الآباء الروحيين، ودليل على قلب له اهتمام ليس بالموضوعات الشخصيّة وحدها، بل يَعتَبِر مصالح الآخَرين هي مصلحته الشخصيّة، وهذا مَثَل واضح جدًّا على هذه المحبّة الفائقة.

    + لاحظوا اللطف غير المحدود لذلك الذي يتوسّلون إليه، فهو لا يهب فقط كلّ ما يسألون منه أن يمنحه لأولئك الذين تبعوه، بل أيضًا يضيف خيرات من يده اليُمنى السخيّة، مُنعِشًا بكلّ طريقة أولئك الذين يحبّونه، ويرعاهم ويغذّيهم بالشجاعة الروحيّة.. أمرهم أن يزوّدوهم بالطعام.. هذا الأمر كان مستحيلاً في نظر التلاميذ، لأنّه لم يكُن معهم أيّ شيء سوى خمس خبزات وسمكتين، وهذا ما اعترفوا به له حينما اقتربوا منه..

    + نظر إلى فوق إلى السماء، ليطلُب بركة من فوق، قاصِدًا بهذا أيضًا ما هو لخيرنا. لأنّه هو نفسه الذي يملأ كلّ الأشياء، إذ هو نفسه البركة التي تأتي من فوق، من الآب، ولكي نتعلّم نحن أنّنا حينما نبدأ في الأكل ونكسر الخبز، فمن واجبنا أن نقدّمه إلى الله؛ واضعين إيّاه على أيدينا الممدودة، ونستنزل عليه بركةً من فوق. ولذلك فقد صار هو سابقًا لنا، ومثالاً، وقدوةً في هذا الأمر.

    + كرم الضيافة ينال مكافأة جزيلة من الله؛ فالتلاميذ قدّموا خمسَ خبزاتٍ، ولكن بعد أن تمّ إشباع جمع كبير هكذا، فقد جمع لكلّ واحد منهم قفّة مملوءة من الكِسَر. لذلك، فلا يجب أن يكون هناك شيء يعوق أولئك الذين يريدون أن يستضيفوا الغرباء.. لا يقول أحد: "إنّي لا أملك الوسيلة المناسِبة، وما أستطيع أن أفعله هو تافه تمامًا لا يكفي كثيرين". يا أحبّائي استضيفوا الغرباء.. لأنّ المُخلِّص سيُضاعف القليل الذي لكم مرّات أكثر من أيّ توقُّع. ورغم أنّك لا تُعطِي إلاّ القليل، فسوف تنال الكثير "لأنّ مَن يزرع بالبركات، فبالبركات أيضًا يحصد" (2كو9: 6) حسب كلمات بولس الرسول.

    + جماعات المؤمنين، لهم في الكتب المقدّسة، مَرعَى مملوء بأنواع مختلفة من النباتات والزهور، تلك الكتب هي مرشدكم الحكيم، وإذ يمتلئ المؤمنون بالفرح الروحاني بسبب التعاليم المجيدة، والإرشادات التي تحتويها هذه الكتب. لذلك فهُم يأتون كثيرًا إلى المجالس المَلَكِيّة المقدّسة التي توفِّرها لهم هذه الكتب المقدّسة. وهذا هو ما سبق الأنبياء به منذ زمن بعيد بكلمات إشعياء: "ويكون على كلّ جبل عالٍ، وعلى كلّ أكمَة مرتفعة، سواقٍ ومجاري في ذلك اليوم" (إش30: 25). وأيضًا "يكون في ذلك اليوم أنّ الجبال تقطر حلاوة، والتلال تفيض لبنًا" (يوئيل3: 18). لأنّه من عادة الكتب الإلهيّة أن تُشَبِّه بالجبال والتلال أولئك الذين أُقيموا على الآخَرين؛ أولئك الذين عملهم أن يُعلِّموا الآخرين إذ أنّهم مرتفعون جدًّا، وذلك الارتفاع أقصد به سموّ أفكارهم المنشغلة بالأمور السماويّة، وابتعادهم عن الأمور الأرضيّة. بينما المياه والحلاوة واللبن تشير إلى التعاليم التي تفيض منهم، كما تفيض المياه من الينابيع، ويقول الكتاب: "ويكون حينئذ، في ذلك الوقت أن مياهًا متدفِّقة، وعصيرًا ولبنًا تجري من كلّ جبل عالٍ، ومِن كلّ أكمة مرتفعة".

    + هذه هي التعزيات الروحيّة التي للمعلّمين القدّيسين، التي يقدّمونها للشعب الذي يتولّون مسؤوليّة رعايته. إنّ الجماعات اليهوديّة محرومة من هذه التعزيات، لأنّهم لم يَقبَلوا المسيح ربّ الجبال والتلال، ومُعطي التعزيات الروحانيّة، وهو الذي يقدِّم نفسه كخبز الحياة لأولئك الذين يؤمنون به، لأنّه هو الذي نزل من السماء، وأعطى الحياة للعالم.

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 48) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف