بقلم: د. تيتو غبريال
بيت ماضي مأمول وحاضر مرذول ومستقبل مجهول
في صيف عام 1972 ذهبت مع الأسرة لقضاء بضعة أيام في الإسكندرية، وتصادف أن تكون هذه العطلة في شهر رمضان ولم أكن أتوقع أن تكون شواطئ الأسكندرية الجميلة –عروس البحر الأبيض سابقًا– خالية من إخواننا المسلمين حيث شهر الصوم، وكان كل من بالشاطئ من المسيحيين فكانت الأذن تسمع أسماء مسيحية (بيشوي، مرقص، مينا، جرجس، ...) إلى آخره من هذه الأسماء المسيحية، ولم تحدث مشاجرة واحدة وكانت الألفة هي السمة السائدة بين المصطافين، ولم يخلُ الشاطئ من بعض المعاكسات التي لم تخدش الحياء وهي سمة المغازلات في هذه الحقبة الزمنية –الستينات وأواخر السبعينات–، وكثيرًا ما كان يُطلق عليها الدعابة والتي امتاز بها شعب مصر جميعه.. دعابة لم تجرح أحد لا من السيدات ولا من الآنسات حتى الرجال والشباب كانوا يتقبلونها بصدر رحب دون أن تتحول إلى مشكلة تحمل في ثناياها العصي والسنج والمطاوي، وكانت أمواج البحر تتراقص مع أصوات الترانيم التي يشدو بها المصطافين وكأنها ألحان لهذه الترانيم أو موسيقى تصويرية لها، ومن أشهر الترانيم ترنيمة "وسط البحر الهائج" وكانت أيام المصيف تنعشنا جسديًا ونفسيا وروحيا..
ومنذ أيام عام 2009 تكررت نفس الرحلة مؤكدة المقولة الشهيرة "أنك لا تستطيع أن تنزل البحر مرتين" حيث تصادف أن أقضي بضعة أيام في إحدى القرى السياحية جنوب سيناء وكان كل مَن حولي مِن المسيحيين (بطرس، بولس، مارينا،...إلخ).
وهيأت نفسى وروحي لأستمع إلى الترانيم الحديثة والمسابقات الجميلة التي كان يشترك فيها الكبير والصغير لقضاء وقت ممتع خاصة وأنني لست من هواة السباحة، ولأن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن كانت الأذن تسمع الأغاني، وياليتها الأغاني التي نشأنا عليها لكبار فنانينا الذين ملأت الدنيا أغانيهم، لكنني استمعت إلى كلمات شدوهم وهي "سيد يا سيد"، ولا أدرى هل هذه أغنية أم شخص ينادون عليه ولا يريد أن يأتي! وأيضًا غنوا قائلين "آه يا واد يا ولعة" وكأنهم يغنون في آتون من النار!؟ واختفت الترانيم والألحان والفوازير الجميلة وتحولت إلى أغانى هابطة -حقًا إن أردت أن تعرف مدى حضارة وتقدم شعب فإستمع إلى أغانيه-، كما رأيت الشجار بين الأشخاص وتحولت أخلاقيات أولاد الله إلى أخلاقيات أولاد الناس واختفت الترانيم والألحان والعلاقات الدافئة وإن بقيت الرمال ورياح البحر وأمواجه لكنها لم تعد في انسجام مرة أخرى مع الإنسان..
ولا شك في أنه ما استقرت عليه سلوكياتنا اليوم هو ما زرعناه نحن أمس بأيدينا رعاة ورعية من قيم وأخلاق، وما تراه أعيننا اليوم من رقع في ثوبنا الأخلاقى والأدبي هو ما فعلته أيدينا فى ذلك الثوب، فالإنسان في ظل هذه الفترة الحالكة "الرأس أمنية" الحديثة يوجد دون هدف أو غاية، وقد يكون ضمن الآلة الإجتماعية بحيث يتحرك ويعمل ويؤدي وظيفته التي أعد لها من أن تكون له أي كلمة أو شخصية أو نشاط مستقل، ولم يعد الإنسان الحديث موجودًا قلقًا؛ متهورًا؛ متلبدًا فحسب، بل لقد أصبح كأنه مهمشًا لا شيء يلهمه ولا شيء يمسه ولا يحرك كوامن وجوده الباطني، ومهما يكن من أمر الإبتسامة السطحية التي نقابل بها الآخرين فإننا مع الأسف الشديد تملكنا الإحساس العام باليأس والتشاؤم.
ومهما حاول الإنسان الهروب من شعوره بالإغتراب عن ذاته وزيادة شعوره بالخواء، وليس خواء الحياة الخارجية للإنسان ورتابتها سوى مجرى وصدى لخواء حياته الباطنية وركودها، فالمسئولية واقعة على من خُلقوا ليكونوا ملحًا للأرض، وينبغى أن يكون شغلنا الشاغل ومدى اهتمامنا هو معرفة الأسباب الحقيقية لبحث الرعية عن راحتها خارج الحظيرة لنعيد صياغة زماننا، حتى لا ينطبق علينا قول الشاعر "نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا".
وللحديث بقية عن سلبيات "ملح الأرض".